سام الغُباري
يتهادى رمضان على أجنحة الغيب، ينساب بين الليالي كأنه همس الملائكة في أذن الأرض، فيطرق أبواب القلوب المرهقة، ويربّت على أرواح المنفيين في أراض كثيرة لا تشبه أرضهم، يلمّ شعث المهاجرين الذين تبعثروا في الطرقات البعيدة، يضمّهم إلى صدره كأنهم أيتام الحنين.
يا الله، أيكون للصوم لذة حين تفقد الأرض مذاقها، وحين تهاجر الجدران من الذاكرة، وعندما يصبح الليل قاسيًا كأنه بابٌ مغلقٌ على أمنيات لا تجد لها مخرجًا؟
في شوارع الشتات، يمر الحزن بدمع لا يُرى، يتسحّر الناس على الذكرى، يفطرون على الغصة، يرتقون بأدعيتهم إلى السماء، ليسمع الله أنينهم فيرفع عنهم هذا الوجع المتجذر في الصدور.
وفي بلدان لا تعرفهم، ولا تسأل عن قصصهم، ولا ترى في أعينهم مواسم الوجع المتراكمة، ولا تسمع في أنفاسهم نشيج القرى التي التهمتها الحرب، يمشون وكأنهم أطيافٌ لا ظل لها، يحملون اليمن في قلوبهم كما يحمل العطش السراب في كفّه.
رمضان في الغربة صلاةٌ ودعاءٌ يعلو من حناجر مخنوقة، فوانيس لا تشعّ إلا حزناً، وموائد يحيطها الصمت، فلا صوت يعبث بالملاعق كما كان، ولا ضحكات تسبق التراويح، ولا وجوه مألوفةٌ توزع التمر كما توزع المحبة.
الطقس باردٌ حتى في حرِّ الصيف، الشمس في البلدان التي غادر إليها اليمانيون لا تشبه الشمس في قُراهم، الليل في المنافي بلا ذاكرة، لا يحمل رائحة الحارات القديمة، ولا يخفي خلفه نداء المسحراتي، ولا يحمل على أطرافه صوت الجدّات وهنّ يجهزن قهوة الفجر لأبنائهنّ العائدين من صلاةٍ يتضرعون فيها إلى الله أن يعيد البلاد إلى أهلها.
يا الله، كيف تحتمل الأرض هذا الكمّ من الحنين؟ كيف لا تنشقُّ المدن وهي تثقلها أرواحٌ سُحقت ولماذا لا تجنُّ الشوارع وهي ترى أسماءها تُمحى من ذاكرة أصحابها؟ كيف لا تهتزُّ الجبال وهي ترى اليمنيين يحاولون التمسك بالهواء كي لا يسقطوا في هوّة اليأس؟
في رمضان، لا يُسأل المنفي عمّا يفتقد، لأن الإجابة تسكن في ملامحه، في نظراته الممتدة نحو اللا شيء، وفي شفتيه اللاتي يهمسن بأدعية لعل وعسى، وبين يديه المرتجفتين حين يرفع كوب الماء عند أذان المغرب كأنه يرتوي من وجعه لا عطشه، وفي قلبه الذي لا يزال معلقًا بباب قديم، يفتحه كل ليلة في المنام ليجد خلفه اليمن كما كانت.
كم ليلة بقيت يا رمضان؟ وكم سجدة تكفي لينجلي هذا الغمام؟ وكم غيمة تحتاج السماء كي تمطر على بلاد احترقت؟ وكم دمعة تُكتب في سجل القدر كي يُمحى هذا الشتات من صحائف الأيام؟
هل يسمع العالم أنين أمهات عجزت أيديهنّ عن مسح رؤوس أبنائهنّ لأن الحرب سرقتهم دون وداع؟ وهل ترى يا هؤلاء دموع الآباء الذين صاروا غرباء في أرض لم تحسب لهم حسابًا؟ هل يسمع العالم بكاء الأطفال في شتات أوروبا الذين يتعلمون النطق بلغة ليست لغتهم، يكبرون في أرض ليست أرضهم، يحفظون أسماء الشوارع التي لم يُخلقوا فيها؟
ما أصغر العالم حين تضيق بنا الأوطان، وما أضيق المنافي حين يسكنها الحنين، وما أوجع الليالي حين نصلي فيها لبلاد لا تسمع الأذان فيها.
فيا ربِ، إن كان للوطن بابٌ أغلقته الحرب، فافتحه بدعوات الركع السجود، وإن كان للغربة طريقٌ لا ينتهي، فاجعل نهايته قريبة، وإن كان في القلب مكانٌ للحزن، فاملأه باليقين بأنك لا تنسى، ولا تردُّ المظلوم خائبًا، ولا تغلق باب الرجاء في وجه العائدين إليك.
رمضان، لا تغادر قبل أن تترك في أرواحنا نافذة للأمل، ولا تغلق أبواب الدعاء قبل أن تسكن الطمأنينة في قلوب المهاجرين، لا ترحل يا رمضان قبل أن يأخذ ربنا بأيدينا نحو الغد الذي نراه بعيدًا وهو أقرب مما نظن.
إن أمة صامت على الجرح، وأفطرت على الأمل، وانتظرت العيد وهي لا تملك سوى الرجاء، فإن كان لها فرج، فاجعله يا الله قريبًا، وإن كان لها فجر، فليكن هذا آخر ليل في غربتها.
نحبك يا رمضان
..وإلى لقاء يتجدد