عبدالعزيز صالح الصالح
حيث إن المرء المسلم يرتقي في شهر رمضان المبارك بإنسانيته إلى ذروة الكمال، حيث ان الخالق عز وجل قد ميزه عن بقية الكائنات وجعل له الهمة والعزيمة والاستعداد للسمو بروحه والابتعاد عن كافة الشهوات والغرائز. فإن شهر رمضان المبارك، كما أراد الله للبشرية عامة، فهو شهر للتدريب الروحي والجسمي والنفسي حتى تخرج النماذج الربانية الصلبة فالمرء حينما يمتنع بمحض أرادته عن تناول الطعام والشراب وعن كافة الشهوات.
إنما يثبت أن الإيمان صانع العجائب وأن الإرادة هي الميزة التي ميز الله بها الإنسان عن غيره، وفضله بها على كثير ممن خلق. فالصوم فرضه الله علينا، كما فرض على الذين من قبلنا. فالغاية منه التقوى بقول الحق تبارك وتعالى في محكم كتابه الكريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} سورة البقرة.
فقد فرض الله الصيام على الأمة الإسلامية قاطبة، وذلك لحكمة بالغة وغاية مثلى، وليس لمجرد العناء والمشقة والحرمان والتعب، وإنما شرع الله الصيام ليصل بالنفس إلى حقيقة التقوى فتسمو عن الدنايا وترتفع عن المعوقات البشرية، حتى تتعلم كيف تسيطر على النوازع والغرائز، فليس المقصود من الصيام إذلال النفس الإنسانية أو إخضاعها بالقوة أو القسوة، ولكن الهدف من ذلك التشريع العظيم هو علاج للنفس من كافة الأمراض وتكتسب من ذلك إرادة وعزيمة وهمة ونشاطاً وحيوية صادقة على تحدي الصعوبات ومقاومة الشهوات الجسدية ورمضان موسماً لممارسة أعمال الخير بشتى صوره فالمرء مكون من مادة وروح، حتى يقوى جسمه، وتقوى روحه، بالغذاء المناسب لهما فديننا الإسلامي بفضل الباري عز وجل قد اعتنى بالناحيتين معاً، ولم يرض أن تهضم ناحية الحساب الأخرى.. فان المرء الصائم حينما يمتنع بإرادته عن الضرورات التي يحتاج إليها بحكم تكوينه الغرائزي، فانه يمسك عن كافة المحرمات، ويجتنب عن كافة المنكرات، وبذلك ينمو الضمير الحي، الذي يدل الإنسان إلى أوجه الخير ويبعده عن أوجه الشر.
ويقول الإمام الغزالي: الصيام صفاء للنفس، وزكاة للنفس، ورياضة للجسم، وداع للبر، فهو للمرء وقاية، وللجماعة صيانة، ففي جوع الجسم صفاء للقلب، وإيقاد للعزيمة، وإنفاد للبصيرة، لأن الشبع يورث البلادة ويعمي القلب، ويكثر الشجار في الدماغ فيتبلد الذهن. وقال الشاعر أحمد شوقي في كتابه «أسواق الذهب» عن الصيام - فهو حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع لله وخضوع، ولكل فريضة حكمة وهذا الحكم ظاهرة العذاب وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة، ويحض على الصدقة، ويكسر الكبر، ويعلم الصبر. فالصيام فوائده عديدة وحكمه عظيمة، فمنها تطهير النفس وتهذيبها وتزكيتها من الأخلاق السيئة كالشر والبطر والبخل وتعويدها على الأخلاق الكريمة كالصبر والحلم والجود والكرم ومجاهدة النفس فيما يرضي الله سبحانه وتعالى. ومن فوائد الصيام أيضاً - أنه يعرف العبد نفسه وحاجته وضعفه وفقره ويذكره أيضاً بحاجة إخوانه الفقراء والمساكين فيوجب له ذلك شكر الله سبحانه والاستعانة بنعمه على طاعته ومواساة إخوانه الفقراء والإحسان إليهم - وفي هذا الشهر الفضيل، تزداد صلة الأرحام، ويتحول المسلمون إلى أسرة واحدة، متمثلين صفة المؤمنين التي بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى) وقال صلى الله عليه وسلم: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً).
وفي هذا الشهر الكريم يكثر الخير والطاعات؛ ليكون في أوله رحمة، وفيه أوسطه مغفرة، وفي آخره عتق من النار.
وفي الختام - أسأل الله تعالى بمنّه وكرمه أن يرزقنا الشكر على فضله، والقدرة على أداء حقوقه، وواجباته، وأن يجعلنا ملتزمين بشرعه، وأن يجعلنا من الصائمين الصادقين نهاراً، القائمين العابدين العاكفين ليلاً، وأن يعيننا على غض البصر وحفظ اللسان إنه سميع مجيب.