سهام القحطاني
هل عرف العرب قبل الإسلام التاريخ بمفهومه الاصطلاحي وأساليبه الإجرائية التوثيق والتدوين في هيئته النثرية كرواية تاريخية كما كان الحال عند الأمم الأخرى؟
تُشير الدلائل إلى أن العرب قبل الإسلام لم تعرف التاريخ بالدلالة التي عرفت عند الشعوب في عصرهم؛ ولعل لذلك أسباباً توفرت عند تلك الشعوب ولم تتوفر عند العرب وهي:
* وحدة النظام السياسي وأصول الحياة المدنيّة أو كما يصفها المفكرون الحضارة.
ربط مؤسسو الفكر التاريخي ومن بينهم ابن خلدون نشأة الفكر التاريخي في مدلوله الاصطلاحي عند أي شعب من الشعوب بما يمتلكونه من حضارة.
ويعرف ول ديورنت الحضارة «إنها نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة في إنتاجه الثقافي وتتألف من أربعة عناصر: الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية، ومتابعة العلوم والفنون»
فوجود حضارة هي التي تدفع الشعوب إلى تدوين وتوثيق مظاهرها و تطورها»الحركة التاريخية للمجتمع»، والعرب كانت أمة ذات تراث وليست حضارة؛ لأنها لم تمتلك أي مظهر من المظاهر المادية للحضارة مثل التعليم والقراءة و الكتابة والمسرح والتأسيس لأي علم من العلوم.
* الذهنية الشفوية للعرب لم تمكنهم من تأسيس قواعد ثابتة للتدوين والتوثيق وساعد على ذلك غياب القراءة والكتابة من جانب واعتمادهم على الرواية الشفهية كبديل للرواية التاريخية المكتوبة من جانب آخر.
* غياب الأساطير عند العرب؛ فالأساطير» هي التي تروي دائماً البدايات/بداية الكون، بداية الإنسان.. وبالتالي ترتب الأحداث ترتيباً زمانياً كاشفاً عن التحولات في حياة الإنسان» كما يقول العروي، وأهمية الأساطير أنها أسست للرواية التاريخية «سرد الحدث في نسق زماني» -العروي- عند الشعوب أصحاب الأساطير.
وكان للعرب بلا شك أساطير منقولة وليست أصيلة ولهذا لم يستطيعوا الاستفادة منها في تأسيس رواية تاريخية بسبب طبيعة حياتهم وغياب المسرح عندهم.
* أساليب النظام الاقتصادي أو تطور أساليب الإنتاج وطرائقه فالعرب لم يعرفوا سوى التجارة والرعي وحتى في هذين المجالين لم يطورا أساليبهم فيهما لإنتاج أنماط من السلوك الاجتماعي والاقتصادي والثقافي تسهم في تطورهم وفق الرؤية التاريخانيّة الماركسية.
* الصراعات والحروب.
مثَّلت الحروب والصراعات عند غير العرب مادة قوية لكتابة الرواية التاريخية و من ثم كتابة التاريخ، وقد يقول قائل أن إشكالية الصراع كانت قائمة عند العرب أيضاً واستمرت لسنوات طويلة، وهذا صحيح لكن هذا الصراع لم يكن صراع فناء للشعوب وثقافتهم لتظل الحاجة إلى توثيق تاريخ الشعوب المتصارعة ضرورة للحفاظ على تراثهم بعد سقوط دولهم، في حين أن الصراع بين العرب لم يكن صراع فناء وتغير ثقافات ولغات وأنماط حياة واقتصاد وسياسة.
إن الصراع هو الذي يدفع إلى نشأة التاريخ وهنا عودة إلى فكرة الصيرورة التاريخية عند هيجل.
لقد كان عند العرب قبل الإسلام ما يعادل «المفهوم الإجرائيّ» للتاريخ وهو الشعر الذي كان يُعتبر بمثابة «التوثيق لتاريخ حياتهم في صور رمزيّة «، وهذه الرمزيّة فتحت المجال لكثير من الأخطاء وعدم التمثيل الحقيقي للواقع الفعلي للعرب؛ لأن الشعر تأثيره في تقديم ما يريده المتلقي من مثالية وليس ما هو واقع، ولذا لم يسرد لنا الشعر العربي العادات السيئة عند العرب إلا في حالة هجاء قبيلة لقبيلة وفي هذه الحالة لا يمكن اعتبار ما يّذكر في هذا المقام هو صدق، ولا يمكن اعتبار الشعر معادلا للرواية التاريخية.
ولذا عبر القرآن الكريم على غياب صدقية الشعر العربي ما قبل الإسلام بلفظ «يقولون ما لا يفعلون» وبذلك لا يمكن اعتبار هذه الرمزية هي المعادل للتوثيق لعدم وضوح تفاصيلها وغياب شواهدها وما يحيطها من شك في صدقيتها.
ولذلك ظل الشعر مصدر جدل لم يُستفد منه كثيراً فيما بعد في رسم حدود واضحة لتاريخ العرب قبل الإسلام.
لكن لو عدنا إلى الشعوب الذين أسسوا لعلم التاريخ سنجد أن الشعر كان أصلاً من أصول صناعة التاريخ عند تلك الأمم، وهذا صحيح ولكن الشعر المبني على الأساطير وليس الوجدانيات كما عند العرب، فالأساطير التي كانت تسيطر على الشعر عند الأمم التي أسست علم التاريخ هي التي مثّلت ذلك الأصل وليس الشعر في فنياته كما عند العرب.
ولعل هذه الأسباب جعلت البعض يذهب إلى أن العرب لم يعرفوا لفظ «التاريخ» بمفهومها المعرفي وأنها أصلها فارسي تسلل إلى الثقافة العربية مع الترجمة في العصر الأموي.
ولكن المؤكد أن التاريخ كمفهوم معرفي لم يُعرف عند العرب إلا بعد الإسلام لأسباب عديدة.