أ.د.أبو المعاطي الرمادي
الصراع بين الإنسان والآلة صراع قديم، بدأ منذ عصر النهضة الصناعية التي قدمت للبشرية آلات تفوق قوتها وقدرتها قوة الإنسان وقدرته. وفي قصة الأمريكي الأسود (جون هنري) عامل الحفر قوي البنية في سبعينيات القرن التاسع عشر مع أول حفار يعمل بالبخار دليل على هذا الصراع.
حقيقة فاز جون هنري المقتنع بقوة الإنسان وتميزه على الحفار في سباق التحدي الذي نُظّم لهما، لكنه بذل مجهودًا مضاعفًا كان ثمنه حياته، فمات بعد آخر ضربة بمطرقته، وبقيت الآلة.
كما هزمت الآلة الإنسان بقوتها هزمته بعقلها أيضًا؛ ففي التحدي بين (جاري كاسباروف) لاعب الشطرنج والسياسي الروسي الشهير والحاسوب (ديب بلو) عام 1996م فاز (كاسباروف) بخمس جولات في مباراة من ست جولات، أقيمت في مدينة فيلادلفيا الأميركية، لكنه خسر بعد عام في المباراة التالية التي أقيمت بمدينة نيويورك عام 1997م، بعد أن طورت شركة (IBM) المالكة للحاسوب طريقة عمله وقواعد بياناته، ليس لأن الحاسوب أفضل ذكاء؛ بل لأنه أشد سرعة، لكن في النهاية انتصرت الآلة على الإنسان.
هذا الصراع صوره الأدب وصورته السينما بصور عديدة في روايات وأفلام الخيال العلمي، منها رفض الروبوت الخضوع لسيطرة الإنسان، كما في رواية (رجل المائتي عام) للكاتب الروسي إسحق أزيموف، التي يطلب فيها الروبوت (أندرو) من مالكه الحصول على حريته؛ ليعيش كما يحلو له، ومنها الصراع بين الروبوتات والبشر كما في فيلم (The Creator) المبتكر، ومنها زواج الإنسان بالروبوت، ثم الطلاق بسبب التغيرات التي طرأت على الروبوتات بفعل الذكاء الاصطناعي، واشتعال الحرب بينهما، كما في رواية (دولة الروبوت) لبسام عبد السميع.
في مسرحية (هيكسا) المأخوذة عن نص مسرحي بعنوان (2150) للكاتب السعودي فيصل غمري يتوصل الدكتور (مُؤْثر) العالم والباحث في تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي إلى طريقة تمكن الذكاء الاصطناعي من تطوير نفسه بنفسه دون تدخل من الإنسان، ويطبق فكرته ـ رغم تحذيرات زوجه ـ على النموذج صفر(هيكسا)؛ إيمانًا منه بأن في ذلك راحة للإنسان، لكن الجهات المختصة في المؤسسة العلمية التي يعمل بها طورت المشروع ووسعت دائرته، حتى سيطر الآليون على الكوكب، وبدأ البشر في الانقراض، وأصبح النموذج الآلي الأكثر تطورًا (أنفنيتي) المتحكم في كل شيء على ظهر الكوكب. يقول الدكتور (مُؤْثِر): «البشر في حالة انقراض بسب الآلة. قتلت زوجتي وابنتي بسبب الآلة.. أعيش عذابي بسبب الآلة».
أمام هذه السيطرة حاول الدكتور مؤثر إعادة التوازن إلى العالم مرة أخرى، بإعادة برمجة النموذج صفر (هيكسا)، وإضافة مشاعر زوجه المتوفاة إلى ذاكرتها، لعلها تشعر بما يعانيه وتساعده للسيطرة عليها، ومنها السيطرة على بقية الآليين.
تضعنا مسرحية (هيكسا) أمام مجموعة من الأسئلة بعضها مرعب:
_ ماذا لو استيقظنا ووجدنا الآليين يملؤون الشوارع ويتحكمون في كل شيء؟
_ ماذا لو أصبح البشر تابعين للآلة؟
_ هل يمكن العيش في عالم بلا مشاعر؟
_ هل المشاعر قادرة على إصلاح ما أفسده العلم؟
لذا فهي صرخة عالية لجذب الانتباه الإنساني إلى خطورة الآلة إذا خرجت من تحت سيطرة الإنسان، ودعوة لإعادة التوازن إلى عالمنا، والحرص على أن يكون الإنسان سيد الكون كما خلقه الله، وتحذير من خطورة الذكاء غير المؤطر بالمشاعر؛ فحياتنا تحتاج إلى ذكاء وشعور، فلا حياة تقوم على الذكاء فقط؛ فالذكاء وحده دمار، ولا حياة تقوم على المشاعر فقط؛ فالمشاعر وحدها خراب، ولابد من التوازن بينهما.
هيكسا على الورق نص مسرحي عصري المضمون، جيد السبك، استطاع كاتبه السيطرة على شغف المتلقي دافئًا من البداية حتى النهاية، واستطاع الدراماتورج بالحذف والإضافة والتقديم والتأخير إضفاء لمسة جمالية لا يمكن إنكارها، ما يدل على إمساكهما الجيد بأصول الصنعة المسرحية.
المشهد الأول مقدمة موفقة جدًا، قدم فيه المؤلف فكرة مسرحيته، وعرف بالشخصيات الرئيسة المستمرة حتى النهاية، ونجح في التركيز على الشعور بالألم الذي يعانيه الدكتور (مؤثر) من خلال الجمل القصيرة الحاملة أبعادًا نفسية، والكاشفة عن دواخل مفعمة بالحزن والألم على ما آل إليه حال العالم.
في المشهد الثاني بدأت العقدة المبنية على المقدمات المطروحة في المشهد الأول، ويحمد هذا للمؤلف والدراماتورج كثيرًا. بدأت العقدة بسيطة وراحت تتعقد في المشاهد من الثالث حتى السابع بشكل تدريجي آسر عقل وفكر المتلقي، وفي المشهد الثامن بدأت تتكشف وظهر الحل. لا أنكر أنه كان متوقعًا، لكن الكيفية التي قدم بها جذبت انتباه القارئ والمشاهد.
بدأت المشاهد كلها ماعدا المشهدين الخامس والسادس بتقديمات درامية جيدة، كلها تصور المكان الذي أدى دورًا مهمًا في أحداث المسرحية، وانطلقت من مكوناته الحوارات بين الشخصيات، وتبلور الصراع الذي تنوع بين صراع داخلي داخل نفس الدكتور مؤثر، وداخل نفس هيكسا، وصراع خارجي بين الدكتور مؤثر والآليين، وبين الآليين والآليين. وهو صراع خطط له المؤلف والدراماتورج جيدًا من بداية المسرحية؛ فجاء منطقيًا ومقنعًا بلا فجاجة.
المسرحية على خشبة المسرح اختلفت اختلافًا كبيرًا عنها على الورق؛ بفعل المؤثرات المسرحية المستخدمة بحرفية جيدة بداية من السينوغرافيا؛ فقد جاءت أجواء المسرح مناسبة للفكرة التي يريدها المؤلف، وبدت مصنوعة بدقة كبيرة ما جعل الألوان والإضاءة والموسيقى جزءًا من أجزاء العمل وليست عالة عليه، وتوافقت مع البعد التخيلي لقارئ النص الورقي وفاقته أحيانًا.
بدأت المسرحية بمشهد سينوغرافي مهم، يخاطب بصر المشاهد وعقله معًا. لقاعة تحتوي على أجهزة تبدو بدائية في عام 2150م، والدكتور (مؤثر) حائر بين الأجهزة، يمسك من حين لآخر بدمى مصنوعة من أعواد الشجر، يصرخ لائمًا نفسه، ويحاول إيجاد حل لمشكلة ما، يتضح بالتدريج أنها مشكلة خروج الإنسان الآلي (هيكسا) عن سيطرته، والدمار الذي ترتب على فقدان هذه السيطرة.
تغيرت عناصر مشهد البداية في المشاهد التالية تغيرًا طفيفًا على غير ما كان متوقعًا، ما جعل الصورة الأولى حاضرة بقوة من بداية العرض حتى نهايته، وهو مأخذ على المسرحية يمكن إرجاعه إلى محدودية الإمكانات الإنتاجية المتاحة لفريق العمل.
وظفت الإضاءة الخافتة التي غلب فيها الضوء الأزرق على بقية الأضواء توظيفًا جيدًا خدم الفكرة العامة للمسرحية، وجعل المشاهد يعيش في الفضاء الزمكاني الذي أراده المؤلف والمخرج، وأدت ملابس الشخصيات التي توافقت مع كونها شخصيات آلية دورًا مهمًا في إكساب أحداث المسرحية منطقية مقنعة أجبرت المشاهد على النظر إليها طوال المسرحية على أنها آلات، وأجبرته على أن يظل أسير هذه النظرة حتى بعد الانتهاء من عملية المشاهدة، ووظف المكياج المتوافق مع طبيعة الشخصيات داخل العرض توظيفًا رائعًا، جعل له دورًا في عملية تلقي الشخصيات وقبول أفكارها والتعامل معها.
ويضاف إلى ذلك التوظيف المتميز للغة (الميكانيكية) المتقطعة للشخصيات، وحركة الشخصيات الآلية على خشبة المسرح. وهي أمور مرتبطة بالرؤية الإخراجية التي تدل على وعي المخرج بالفكرة واتساع زاوية رؤيته للنص.
يحمد للمؤلف وفريق العمل، إضافة إلى ما سبق، ثلاثة أمور أراها مهمة:
الأول: تحويل العرض إلى عرض عام بعيد عن التخصص الزمكاني، ما جعله صالحًا للعرض في أماكن عديدة، وأزمان مختلفة.
الثاني: تحويل الفكرة المجردة إلى تمثيل مبسط، دون الخوض في مصطلحات معقدة منفرة للجمهور.
الثالث: الالتزام باللغة الفصحى السهلة، وتدريب الممثلين تدريبًا جيدًا على النطق بها.
لكنني -مشاهدًا- آخذ على الدراماتورج مأخذين: الأول، عدم إعطائه الشخصيتين (هكتار، وكودا) المساحة الكافية على خشبة المسرح، رغم أن الأولى شخصية مختلفة (نصف آلي، ونصف بشري)، والثانية ظهورها مغيّر لسير الحدث، وآخذ بالأحداث نحو النهاية المرجوة من النص، والثاني الحضور الصامت للأطفال الذين لا يمثلون المحرك للضمير الإنساني الحي فقط، بل ويرمزون للمستقبل الحاضر في مشاهد المسرحية كلها، المستقبل المجبر المشاهد -طوال العرض- على سؤال نفسه ما الذي سيحدث لأطفلنا إذا طُبقت إفكار الدكتور (مؤثر) بلا سيطرة من الإنسان.
****
(أكون أو تكون الآلة) صراع جديد أنتجه التطور التكنولوجي المتسارع الذي فاق حدود التوقعات في السنوات الأخيرة، نجحت مسرحية (هيكسا) في بلورته فنيًا بشكل عصريٍ مرضٍ، بدت فيه نبرة التحذير عالية، لكنها لم تسلب العرض فنياته وجماله.
إن نجاح العرض المسرحي لا يمكن نسبته إلى شخص بعينه؛ فهو نتاج جهود مجموعة عمل تعمل وفق نظرية الكل في واحد والواحد في الكل؛ لذا يستحق كل من شارك في هذا العمل أن نقدم له التحية، وتستحق جامعة الملك سعود ممثلة في عمادة شؤون الطلاب ووحدة المسرح المنظمة للمهرجان أن نقدم لها التحية أيضًا؛ فما تقدمه للمسرح الجامعي وللمسرح في المملكة العربية السعودية والعالم العربي سيظل محفورًا في ذاكرة التاريخ.
** **
- جامعة الملك سعود