أ.د.صالح معيض الغامدي
ونستكمل في هذا المقال الحلقة الأخيرة في سياق تناولي لسيرة عائشة المانع (حد الذاكرة)، وقد توقفت عند الفصل الرابع عشر « حلم أبي» الذي تسرد الكاتبة فيه كيفية تحقيقها الحلم الذي كان يراود والدها ولم يتمكن من تحقيقه، وهو تأسيس منشأة تعليمية طبية، فقد تمكنت الكاتبة من إنشاء « كلية محمد المانع للعلوم الطبية MACHS»، التي ستتحول إلى جامعة للعلوم الطبية قريبا، كما تقول الكاتبة. وقذ ذكرت الكاتبة الصعوبات الإدارية والطبية والنظامية وكذلك المجتمعية والأسرية التي وقفت في طريق تحقيق هذا الحلم، واستطاعت التغلب عليها وبخاصة بعد أن أنشأت « وقف الرفيف العلمي « الذي أوقفت فيه جميع عقاراتها وأموالها وأسهمها لدعم طلاب الكلية وضمان استمرارها. وقد اختتمت هذا الفصل بشهادة تكتبها للملك سلمان بن العزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان اعترافا بفضلهما الكبير فيما « أنجزاه على مختلف المستويات للوطن ولأجيال الوطن ومستقبله، وخاصة ما تحقق للمرأة، وما يتعلق بحقوقها وتمكينها، وهو عمل عظيم وجبار بكل ما تحمله الكلمة من معنى «(252).
أما الفصل الخامس عشر والأخبر «مشاهد في الذاكرة» فهو أشبه بتسجيل لبعض التجارب والمشاهدات التي رسخت في ذاكرة الكاتبة منذ الطفولة، ولم تتسع ربما فصول الكتاب السابقة لاستيعابها، وهي عموما كما تصورها الكاتبة: «استشهادات ومرئيات أستقرىء من خلالها، بوصفي باحثة متخصصة في مجال قضايا وشؤون المرأة، وواقعها، وأشكال التعامل الاجتماعي معها، وحضورها في الثقافة المجتمعية بصورة عامة» (253).
وقد ختمت الكاتبة سيرتها بإرفاق مجموعة من الوثائق المصورة التي جاءت في أغلبها مرتبطة بتجاربها الحياتية في مجالات عملها الحكومي والخاص.
تأطير السيرة وقراءتها:
والحقيقة أن سيرة المانع ينتظمها مساران سرديان رئيسان متداخلان: سرد سيرتها الحياتية وسرد نضالاتها في تمكين نفسها في مجتمع لا يعبأ كثيرا آنذاك بشؤون المرأة وحقوقها، وتمكين بنات جنسها النساء وتأكيد حقوقهن في العمل والإرث والحقوق والواجبات الوطنية والسعي لدى الجهات الرسمية إلى تعديل بعض الأنظمة الإدارية التي كانت ترى أنها تعيق ذلك، وقد بدأ هذا الاهتمام النضالي النسوي يتشكل بوضوح وبقوة بعد حصولها على الماجستير وعودتها من أمريكا إلى أرض الوطن. وقد حققت الكاتبة بعض النجاحات في مسعاها وكذلك واجهت بعض الفشل في محاولاتها لأسباب يطول شرحها سيجدها القارئ مطروحة في سيرتها، ولو أن بعض القراء ربما يختلفون معها في تصوير بعض الأمور والأحداث، ولكن هذا أمر مفهوم في السيرة الذاتية، فهي تعكس بالضرورة منظور كاتبها في رواية أحداث حياته التي عاشها والتي شهدها، وتأويله الشخصي لها.
وأرى أن من المفيد قراءة هذه السيرة الذاتية مصحوبة بالسيرة الذاتية التي كتبتها ثريا التركي « حياتي كما عشتها: ذكريات امرأة سعودية من عنيزة إلى كاليفورنيا» ، فبينهما أوجه شبه كثيرة كما أن بينهما اختلافات بينة. فهما باحثتان متخصصتان في علم الاجتماع ومهتمتان بالبحوث الاجتماعية في قضايا المجتمع السعودي ورائدتان في الاهتمام بالمرأة السعودية وقضاياها ….إلى آخره.
ومن شأن هاتين السيرتين أن تعطيا القارئ تصورا أكثر وضوحا وثراء عن هذا المنحى النسوي في كتابة السيرة الذاتية في المملكة العربية السعودية، علما بأن توظيف السيرة الذاتية لدعم قضايا المرأة في المملكة ليس جديدا أو مرتبطا بهاتين السيرتين تحديدا، فقد سبقتهما سيرذاتية أخرى انتهجت ما يقرب من هذا المنحى، ففي دراسة سابقة لي عن « السيرة الذاتية النسائية في المملكة العربية السعودية» أشرت إلى أن « الدفاع عن حقوق المرأة أو (الناشطية» كانت من أبرز سمات هذه السير، أقصد السير التي درستها آنذاك وهي: «أشق البرقع.. أرى» لهدى الدغفق، و « ماضي مفرد مذكر» لأميمة الخميس، و « 40 في معنى أن أكبر» لليلى الجهني. ولكن تأتي أهمية هاتين السيرتين في هذا السياق النسوي من كون الكاتبتين أكاديميتين متخصصتين في علم الاجتماع والأنثربولوجيا.
بقي أن أشير في نهاية هذه القراءة إلى أنني كنت قد لاحظت أن عنوان سيرة عائشة المانع « حدّ الذاكرة» يمكن أن يفهم بأكثر من طريقة واحدة، فحد الذاكرة قد يدل على أن الكاتبة تكتب في حدود ما تسعفها به ذاكرتها، وهي ذاكرة لها طاقة محدودة في التذكر، فلذلك لا ينبغي علينا ونحن نقرأ هذا العمل أن نكلف الكاتبة فوق طاقتها، وهذا يمكن أن يبرر أي قصور قد يجده القارىء أو يعتقد أنه وجده فيها. أما الدلالة الثانية المحتملة للعنوان فهي قد ترد بمعنى مناقض للمعنى الأول تماما، وهو أن الكاتبة تمتلك ذاكرة حادة من شأنها أن تستعيد كل التفاصيل الحياتية. ولكن الكاتبة فيما يبدو تأخذ بالدلالة الأولى وفقا لما سمعته منها في أحد اللقاءات المتلفزة التي أجريت معها.