عبدالله العولقي
في مقال سابق عن الشاعر الأموي قيس بن الملوح ذكرنا أنّ كثيراً من الشعراء العرب عُرفوا بأسماء محبوباتهم ، ككُثيّر عزّة وجميل بُثينة وقيس ليلى وعنتر عبلة وهكذا ، ففي الأدب العربي وربّما في الآداب العالمية الأخرى أيضاً تلوح ظاهرة ثنائية العشق المترابطة مع كينونة الإبداع الشعري ، وأعني متلازمة الشعر / الحب ، وهذا الأمر هو الذي دعا العلاّمة محمود شاكر في بحثه حول إبداعية المتنبي عن فحوى هذه الثنائية أو المتلازمة في سيرته وأدبه ، فكرّس جهده البحثي عن ماهيّة امرأة المتنبي التي تقف وراء إبداعه العظيم ، والتي توصّل لها بعد بحثٍ مضْني ٍ إلى أنَّ هذه المرأة ليست سوى خولة أخت الأمير سيف الدولة ، وإن كان بحثُه غيرَ مقنعٍ في كثيرٍ من استدلالاته إلا أنّ موضوعَ متلازمة الشعر / الحب في الأدب العربي كان أساس ذلك البحث ، ولدينا اليوم في هذا المقال ثنائية شهيرة أخرى ، وهي البُحْتُري / عَلْوة ، فهل كانت هذه الشابة الفاتنة التي عاشت في مدينة حلب بالشام وقد كانت غاية في الحُسْنِ والجمالِ كما تذكر الروايات هي المُعادل الإبداعي لأدب البُحْتري ؟ ، لا سيّما أنّ المتأملَ لأعماله الشعرية يجد حضورَها الطاغي بكثافة داخل قصائده وديوانه .
تذكرُ كتبُ التاريخ أن عَلْوة بعد أن عاشت قصةً ملهبةً في العشق والغرام مع البحتري صدّت عنه وتركته بل إنها تزوجت غيره وهجرته إلى الأبد ، هذا الهجران والصّد كان قاسياً جداً على قلب الشاعر :
وتقولُ إني قد تركتُ غوايتي
فاذهبْ لشأنك راشداً لم تطْردِ
فلئن رددت رسائلي وشتمتني
فلطالما ناديتني : يا سّيدي
لقد تسبّب هُجران علْوة بجرحٍ عميقٍ في قلب الشاعر جعله يفكر بالهجرة من موطنه الشام ، ولكن إلى أين ؟ ، لقد قاده تفكيره العميق أنْ يرحلَ إلى عاصمة الخلافة الإسلامية في بغداد :
واشترائي العراق خُطّة غَبْنٍ
بعد بيعي الشامَ بيعة وكْسٍ
هناك حيث يقطن خليفة المسلمين جعفر المتوكل بن المعتصم بن هارون الرشيد ، وبالفعل فقد حمل قلبه المكلوم ورحل إلى العراق ، لكن هل ستُنسيه حِسَانُ بغداد ذكريات عَلْوة ؟ ، يبدو أن هذا الأمر أشبه بالمستحيل ، فقد ظلّ يشدو بذكراها حتى في محافل مدْحه للخليفة ! ، بل إنه أحدث في الشعر معنىً جديداً ، صحيحٌ أنّ هذا المعنى كان مطروقاً عند الشعراء السّابقين لكنّه كان محدوداً جداً في الاستعمال الأدبي ، وأعني ذكر الطيف والخيال لكنّ البحتري قد توسّع فيه بصورةٍ كبيرةٍ في شعره ، وأعطى هذا المعنى بُعْداً لمْ يسبقْه فيه أحدٌ من الشعراء ، فهل كان هذا الطيف أو الخيال الذي تكثف في قصائده بعد رحيله عن محبوبته هو معادلٌ نفسيٌ لغيابها الحسي عن ناظريه ؟! ، ربّما يكون الأمر كذلك !.
يقول أستاذه أبو تمام :
نَم فَما زارَكَ الخَيالُ ولكنّكَ
بِالفِكرِ زُرتَ طَيفَ الخَيالِ
يقول الآمديُّ في كتابه الموازنة بين شعر أبي تمّام والبحتري حول ذلك : هذا باب الفضل فيه للبُحتري على أبي تمّام ، وما زلتُ أسمع شيوخ العلم والشعر يقولون ، هذا أشعرُ الناس وألْهجهم بذكر الخيال .
وصف النقاد القدماء شعر البحتري بـ سلاسل الذهب ، بينما خصّه ابن رشيق القيرواني بلقب شيخ الصِّناعة الشعرية ، فقد اشتهر بزخرفة شِعْره وهندسة ألفاظه بأسلوبٍ رائقٍ ومحببٍ للمتلقي ، وتدبيجه بطريقةٍ فنيةٍ إبداعية حتى ضُرب به المثل في الأدب العربي ، فقالوا تدْبيجة بُحْتُريّة ، ويحسب له كذلك اعتناؤه الفاخر بنغم الكلمة وموسيقى الجملة الشعرية، حتى قال عنه النقاد: أراد البُحتري أن يشعر فغنّى !.
أما الفن الشعري الذي برع فيه البحتري فهو الوصف ، والوصف هو أصل الأغراض الشعرية، كما هو معروف عند النقاد، فكان ميدانه الذي لا يضاهيه أحد من الشعراء، لا قبله ولا بعده، فمن ذا الذي يقدر أن يجاريه في وصْف الربيع :
أتاكَ الربيع الطلْقُ يخْتالُ ضاحكاً
من الحُسْنِ حتى كاد أن يتكلّما
وقد نبّه النيروزُ في غَسقِ الدُّجى
أوائل ورْدٍ كُنَّ بالأمس نُوّما
ومن ذا الذي يصف إيوان كسرى بمثل ما وصفه البحتري، ففي هذه التحفة الفنية يشاهدُ المتلقي فيلماً رائعاً من الصُّور الوثائقية البديعة:
حَضَرَت رَحلِيَ الهُمومُ فَوَجَّهت
إِلى أَبيَضَ المَدائِنِ عَنسي
أَتَسَلّى عَنِ الحُظوظِ وَآسى
لِمَحَلٍّ مِن آلِ ساسانَ دَرسِ
أَذكَرتِنيهُمُ الخُطوبُ التَوالي
وَلَقَد تُذكِرُ الخُطوبُ وَتُنسي
ومن ذا الذي يصف بركة المتوكل كما وصفها البحتري :
يامَن رَأى البِركَةَ الحَسناءَ رُؤيَتَها
وَالآنِساتِ إِذا لاحَت مَغانيها
بِحَسْبِها أَنَّها مِن فَضلِ رُتبَتِها
تُعَدُّ واحِدَةً وَالبَحرُ ثانيها
فإذا ذُكر فنُّ الوصف الشعري في أدبنا العربي يُذكر معه البحتري بدون ترددٍ كونه أشهر من برع في هذا الفن، ومن ذلك قوله في وصف جمال علوة :
فمنْ لؤلؤٍ عند ابتسامتها
ومن لؤلؤٍ عند الحديث تُساقطه
فُتأمل أخي القارئ الكريم براعته الفنية في تصويره للمشهد الحسي عندما تلتقي نصاعة أسنان هذه السيدة الجميلة بنصاعة حديثها، فهناك تغذية إبداعية فنية بديعة لحاستي العين والأذن، أي لذةً للرائي ولذةً للسامع !.
ولدينا اليوم قصيدة من أرْوع ما أنشده البحتري في ديوانه، وتقع في 35 بيتاً وهي من بحر الكامل، هذا البحر الذي يعشقه البحتري ويستعمله كثيراً في فن الوصف مع بحر البسيط، يقول الدكتور عبدالله الطيب في كتابه المرشد في اللغة العربية: إنّ بحر الكامل كأنما وُجد للغناء، ولذا هو لا يصلح أبداً لشعر الحكمة والفلسفة والتأمل، ولهذا نجد البحتري ومن أعماق تجربته الشعرية الثرية اختار بحر الكامل لهذه القصيدة لأنه لا يريد عمقاً في الأفكار أو خيالاٍ مُجنّحاً مثلما كان يصنعُ أستاذُه أبو تمام، بل كان يكفيه الإيقاع الموسيقي وجرس النغمة في القصيدة لكي يطرب الخليفة المتوكل، وقد قال هذه الرائية الشهيرة في مناسبة عيد الفطر بعد أن أنعم الله على المسلمين صيام شهر رمضان :
بِالبَرِّ صُمتَ وَأَنتَ أَفضَلُ صائِمٍ
وَبِسُنَّةِ اللَهِ الرَضِيَّةِ تُفطِرُ
فَاِنعَم بِيَومِ الفِطرِ عَيناً إِنَّهُ
يَومٌ أَغَرُّ مِنَ الزَمانِ مُشَهَّرُ
حيث بُهر الشاعرُ بجلالة موكب الخليفة المتوكل وهو يقتحم مُصلى العيد ليؤم المسلمين في بغداد، وأثناء تهنئة الشعب للحاكم بعد الصلاة صدح الشاعر الكبير بهذه الرائية التي تُعدُّ من عيون الشعر العربي، حيث ابتدأها بذكريات حبه لمعشوقته علْوة ولواعج الغرام القديم في حلب، وخلجات تلك الأيام الخوالي في المراهقة والصبا:
أُخفي هَوىً لكِ في الضلوع وأُظهرُ
وأُلامُ في كمدٍ عليكِ وأُعْذرُ
وَأَراكِ خُنتِ عَلى النَوى مَن لَم يَخُنْ
عَهدَ الهَوى وَهَجَرتِ مَن لا يَهجُرُ
وَطَلَبتُ مِنكِ مَوَدَّةً لَم أُعطَها
إِنَّ المُعَنّى طالِبٌ لا يَظفَرُ
هَل دَينُ عَلوَةَ يُستَطاعُ فَيُقتَضى
أَم ظُلمُ عَلوَةَ يَستَفيقُ فَيُقصِرُ؟
وفي البيت الأخير، استفهام إنكاري لجفاء الحبيبة (علْوة ) ، ولعلّ لها من اسمها نصيب ، فاسم علوة يوحي بالاستعلاء والتعالي على المحب، لكنه العشق الذي هام بقلب البحتري فلا زال يتذكرها حتى بعد أن تقدّم به العمر وتجنب بطالة الشباب والمراهقة ليستمرَّ الشاعر في وصف محبوبته وجمالها الأخّاذ بصورة وصفية رائعة، تدل على أنه شاعرٌ مطبوعٌ في الأصل وغير متكلفٍ في اللفظ أو المعنى :
بَيضاءُ يُعطيكَ القَضيبُ قَوامَها
وَيُريكَ عَينَيها الغَزالُ الأَحوَرُ
تَمشي فَتَحكُمُ في القُلوبِ بِدَلِّها
وَتَميسُ في ظِلِّ الشَبابِ فَتَخطِرُ
وَتَميلُ مِن لينِ الصِبا فَيُقيمُها
قَدٌّ يُؤَنَّثُ تارَةً وَيُذَكَّرُ
وبعدها ينتقل من وصف الخارج ( الآخر وهي محبوبته علوة ) إلى وصف الداخل (ذات الشاعر) ، وأعني إلى أغوار نفسه المفتونة بالحُسْن ليقدم خطاب التبرير أمام الخليفة حول الأبيات السابقة ، بأنّ روحه الهائمة تعشق الجمال حتى وإن تقادم بها العهد والزمن:
إِنّي وَإِن جانَبتُ بَعضُ بَطالَتي
وَتَوَهَّمَ الواشونَ أَنّي مُقصِرُ
لَيَشوقُني سِحرُ العُيونِ المُجتَلى
وَيَروقُني وَردُ الخُدودِ الأَحمَرُ
وبنهاية خطاب التبرير يبتدئ على الفور بالغرض الأساسي للقصيدة متخلصاً ببراعة الخبرة الشعرية من ضمير الغائب إلى الخطاب المباشر ليمتدح الخليفة المتوكل:
اللَهُ مَكَّنَ لِلخَليفَةِ جَعفَرٍ
مُلكاً يَحَسِّنُهُ الخَليفَةُ جَعفَرُ
نُعمى مِنَ اللَهِ اِصطَفاهُ بِفَضلِها
وَاللَهُ يَرزُقُ مَن يَشاءُ وَيَقدُرُ
فَاِسلَم أَميرَ المُؤمِنينَ وَلا تَزَل
تُعطي الزِيادَةَ في البَقاءِ وَتُشكَرُ
هذا التخلص قد يمثل نوعاً ما الانتقال من السكون إلى الحركة، من ذكريات الماضي الساكنة والكامنة في اللاوعي إلى حركة الواقع المتمثلة في حدث المناسبة الدينية، ولذا نجد في إحدى القراءات المنهجية للقصيدة إحصاءً للجملة الفعلية التي تفوقت في حضورها هنا على الجملة الإسمية، هذا التفوق يتناسب مع جو القصيدة وحركة خروج الخليفة للإحتفاء بأحداث العيد، كما نلاحظ أيضاً ذكاء الشاعر في اختيار حرف الراء كقافية للقصيدة وهو راء جعفر اسم الخليفة المتوكل، بالإضافة إلى أنّ معظم أبيات المدح تأتي متركّزة في السياق الديني وبعيدة عن الجوانب السياسية أو العسكرية مثلاً ، وذلك توافقاً مع سياق المناسبة الدينية:
ذكَروا بِطَلعَتِكَ النَبِيَّ فَهَلَّلوا
لَمّا طَلَعتَ مِنَ الصُفوفِ وَكَبَّروا
حَتّى اِنتَهَيتَ إِلى المُصَلّى لابِساً
نورَ الهُدى يَبدو عَلَيكَ وَيَظهَرُ
وَمَشَي تَمِشيَةَ خاشِعٍ مُتَواضِعٍ
لِلَّهِ لا يُزهى وَلا يَتَكَبَّرُ
ليصل الشاعر إلى غاية انفعاله الشعري والابداعي ليأتي من وجهة نظري ببيت القصيد:
فَلَوَ اَنَّ مُشتاقاً تَكَلَّفَ غَيرَ ما
في وُسعِهِ لَمَشى إِلَيكَ المِنبَرُ
ونختم مقالتنا بكلام المؤرخ والقاضي والأديب ابن خلكان وحديثه النقدي عندما سمع هذه القصيدة البديعة، فقال: هذا الشعر هو السحر الحلال على الحقيقة، والسهل الممتنع ، فلله درَّه! ما أسلي قياده، وأعذب ألفاظه، وأحسن سبكه، وألطف مقاصده.