د.عبد العزيز سليمان العبودي
خلال دراستي في مرحلة الدكتوراه، التحقت بأحد المقررات. وكان الاختبار الفتري يتطلب منا إعادة دراسة بحث محكَّم مع تغيير بعض مدخلاته وتحليل نتائجه مجددًا.
لم تكن المهمة سهلة، فقد كانت تحتاج وقتاً وجهداً أكبر مما تسمح به المدة المحددة. وبعد انتهاء الاختبار، سألت أستاذ المقرر: لماذا لا يتم تقديم هذا العمل كمشروع أو واجب منزلي، بحيث يتاح لنا وقت كافٍ لإنجازه؟ ابتسم وأجاب بثقة: «يقول توماس كارليل (الضغط يصنع الألماس)، فالإبداع يبلغ ذروته في ظل قيود زمنية محددة، حيث يكون التركيز في أعلى مستوياته. لذلك، فإن حصر المهمة في إطار زمني قصير يعزز توليد أفكار جديدة ومبتكرة، وهو أمر لاحظته مرارًا خلال الاختبارات، خصوصًا في برامج الدراسات العليا».
في الحقيقة، الإبداع ليس مجرد ومضة عبقرية تأتي بلا مقدمات، بل هو نتاج تفاعل معقد بين الصفاء الذهني والضغط المحفِّز. فالبعض يبدع عندما يكون في حالة استرخاء وهدوء تام، حيث تنساب الأفكار بسلاسة دون قيود، بينما يجد آخرون أن التركيز الشديد ضمن فترة زمنية قصيرة يحفِّز عقولهم على إنتاج أفكار غير تقليدية.
ويؤكد علم النفس المعرفي أن الدماغ يعمل بأقصى كفاءته عندما يكون هناك توازن بين التحدي والقدرة. فإذا كان التحدي بسيطًا، فلن يتحفز العقل لاستكشاف أفكار جديدة، وإذا كان مفرط التعقيد، فقد يشعر الشخص بالإحباط. لكن عند وجود ضغط زمني، يميل الدماغ إلى استخدام استراتيجيات غير مألوفة، مما قد يولّد حلولًا إبداعية. فالإبداع تحت الضغط يحدث عندما يكون الدماغ في حالة تركيز مكثف، كما هو الحال أثناء الامتحانات أو المشاريع قصيرة المدى، حيث يساهم الأدرينالين في تعزيز التفكير النقدي وحل المشكلات بسرعة، مما يؤدي إلى ابتكار أفكار غير متوقعة. وتوجد أمثلة بارزة على ذلك، كما في حادثة أبولو 13، حيث تمكن علماء «ناسا» من ابتكار حل سريع لإنقاذ حياة رواد الفضاء خلال وقت قصير. وهنا تبرز مقولة فيكتور هوغو في رواية (البؤساء) «كل الأشياء العظيمة تولد من المعاناة».
وعلى النقيض من ذلك، يقول فرانك هربرت في روايته (الكثبان) «إن من يتحكم بالوقت يتحكم بكل شيء». وفي بحث بعنوان «الإبداع تحت فوهة البندقية» للكاتبة تيريزا أميبيل المنشور في «مجلة هارفارد للأعمال» يشير إلى أن الإبداع يعتمد غالبًا على وجود وقت كافٍ للتفكير والتجريب والاستكشاف. فقد تؤدي الضغوط الزمنية الشديدة إلى استنزاف الطاقة الذهنية، مما يعيق التفكير الابتكاري. الدراسة شملت 177 موظفًا من سبع شركات أميركية، طُلب منهم تسجيل يومياتهم خلال فترات العمل المختلفة، مما سمح للباحثين بفحص العلاقة بين مستوى الضغط الزمني ومستوى الإبداع في العمل. أظهرت النتائج أن العاملين تحت ضغط زمني مرتفع غالبًا ما يشعرون بالإرهاق الذهني والجسدي، مما يؤدي إلى انخفاض مستويات التفكير الإبداعي. فحتى لو شعر البعض بأنهم يحققون إنجازًا أكبر تحت الضغط، إلا أن جودة الأفكار المبتكرة تقلّ، حيث يصبح تركيزهم منصبًا على إنهاء المهام بسرعة بدلاً من البحث عن حلول جديدة. في المقابل، عندما يكون لدى الموظفين وقت كافٍ، فإنهم يكونون أكثر قدرة على استكشاف الأفكار الجديدة والتفكير بطريقة مرنة وإبداعية.
ويمكن الدمج بين هذين المنظورين من خلال تصنيف أساليب العمل الابتكاري وفق أربع مسارات مختلفة: المسار الأول: عندما يكون الضغط الزمني منخفضًا، ويشعر الموظفون وكأنهم في رحلة استكشافية، مما يعزز التفكير الإبداعي والانفتاح على الأفكار الجديدة. المسار الثاني: عندما يكون الضغط منخفضًا، لكن الموظفين يعملون بطريقة روتينية، مما يقلل من فرص التفكير الإبداعي، حيث يؤدون مهامهم كما لو كانوا في «وضع الطيار الآلي». المسار الثالث: عندما يكون الضغط الزمني مرتفعًا، لكن الموظفين يشعرون بأنهم في «مهمة عالية الأهمية»، مما قد يحفِّز التفكير الإبداعي بسبب إدراكهم لأهمية العمل وتركيزهم المكثف، وهو ما يشبه حالة الطلاب أثناء الاختبارات محدودة الوقت. المسار الرابع: عندما يكون الضغط الزمني مرتفعًا، غير أن الموظفين يشعرون وكأنهم يركضون داخل عجلة لا تتوقف، مما يؤدي إلى التشتت وفقدان القدرة على التفكير بطرق جديدة ومبتكرة.
في الختام، لا يزدهر الإبداع في بيئات مليئة بالضغوط العشوائية، بل يحتاج إلى بيئة تحقق توازنًا بين التحدي والوقت الكافي للتفكير العميق واستكشاف الأفكار الجديدة. وعلى الرغم من وجود حالات استثنائية يظهر فيها الإبداع تحت الضغط الشديد، فإن القاعدة العامة هي أن الضغط الزمني يقلل من قدرة الأفراد على التفكير بطرق جديدة وخلاقة. لذا، فإن تبني استراتيجيات عمل مدروسة تمنح الموظفين فرصة كافية للتفكير والاستكشاف يمكن أن يكون مفتاحًا لتعزيز الابتكار في بيئات العمل المختلفة.