تغريد إبراهيم الطاسان
مع تزاحم الحياة وتسارع وتيرتها، قد يجد الإنسان نفسه عالقًا في دائرة لا تنتهي من الالتزامات والمسؤوليات والضغوط، غير مدرك أنه يقترب شيئًا فشيئًا من نقطة الاحتراق النفسي.
هذه الحالة، التي باتت شائعة في عصرنا الحالي، لا ترتبط فقط بالإجهاد العادي، بل هي استنزاف مستمر للطاقة العاطفية والجسدية، مما يجعل الفرد يشعر وكأنه فقد شغفه تجاه كل شيء، حتى الأمور التي كانت تمنحه السعادة والرضا.
الاحتراق النفسي لا يحدث فجأة، بل يتسلل ببطء عبر مؤشرات تحذيرية ينبغي الانتباه إليها.
الشعور الدائم بالإجهاد، فقدان الحافز، العصبية المفرطة، واضطرابات النوم .. ماهي الا إشارات أولية، وإذا لم يتم التعامل معها بوعي، فقد تتفاقم لتصل إلى مشكلات أكثر تعقيدًا.
في كثير من الأحيان، يتجاهل الأفراد هذه العلامات ظنًا منهم أن الاستمرار في العمل والإنجاز هو السبيل الوحيد للنجاح، متناسين أن الصحة النفسية ركيزة أساسية لأي إنجاز مستدام.
قد يعتقد البعض أن الحل الوحيد للتخلص من الاحتراق النفسي هو الانسحاب الكامل من الضغوط، لكن الحقيقة أن التوازن هو المفتاح الحقيقي.
التوازن بين العمل والحياة الشخصية، بين الالتزامات والراحة، وبين الإنتاجية والهدوء.
إن إعادة ترتيب الأولويات وتخصيص وقت للراحة الذهنية والجسدية ليس ترفًا، بل هو ضرورة لضمان الاستمرارية بكفاءة.
كثيرون يعتقدون أن الإنتاجية تعني العمل المتواصل، غير أن الحقيقة هي أن الإنتاجية الفعالة تأتي من العمل المتوازن الذي يمنح صاحبه فرصة لاستعادة طاقته بين الحين والآخر.
في هذا السياق، يأتي شهر رمضان كفرصة ذهبية لإعادة ضبط الإيقاع الداخلي، حيث يهدأ الضجيج اليومي، وتتراجع الوتيرة السريعة للحياة، يصبح الصيام والعبادات فرصة للتأمل والمراجعة الداخلية.
إن التوقف عن التفاعل المستمر مع المنبهات الخارجية يمنح العقل فرصة للراحة، مما يساعد في تقليل التوتر ويعيد للفرد شعوره بالاتصال بروحه من جديد.
كما أن تعزيز الجانب الروحاني والانخراط في العبادات بشكل واعٍ يسهم في خلق حالة من الطمأنينة الداخلية، التي تساعد في التعافي من آثار الاحتراق النفسي.
لكن ماذا لو استمرت الضغوط، وشعر الفرد أنه غير قادر على التعامل مع الإرهاق وحده؟
هنا يأتي دور العيادات الاجتماعية التي تفعل الدور الحقيقي للأخصائي الاجتماعي، بحيث تكون خط الدفاع الأول ضد الضغوط النفسية قبل أن تتحول إلى أزمات حقيقية.
هذه العيادات توفر بيئة آمنة للتعبير عن المشاعر، وفضاءً للاستشارات التي تساعد الأفراد على إيجاد استراتيجيات فعالة لاستعادة توازنهم
للأسف، المتعارف عليه والشائع هو وجود المراكز والعيادات النفسية التي لا يزال البعض يتردد في طلب المساعدة من خلالها خوفًا من الوصمة المجتمعية المرتبطة بالصحة النفسية، أو انتشار مراكز الارشاد الاسري والذي يعتبر جزءا من الخدمات الاجتماعية الشاملة.. لذلك حصر تقديم الخدمات الاجتماعية بمراكز الإرشاد الأسري جعل الجزء أهم من الكل الشامل، وبذلك أصبح هناك نقص واضح لابد من اعادة النظر فيه لتكون النتيجة جودة حياة كما يجب، فالاعتراف بالحاجة إلى الدعم ليس ضعفًا، بل هو قمة الوعي الذاتي والنضج. ولكن المهم: أين يتجه من بحاجة الى هذا الدعم؟
من الضروري أن نعيد النظر في مفهوم القوة؛ فالقوة ليست في التحمل والصبر حتى نقطة الانهيار، بل في القدرة على التوقف عند الحاجة وإعادة تقييم المسار. طلب المساعدة لا يعني الفشل، بل هو خطوة نحو استعادة السيطرة على الحياة، تمامًا كما نلجأ إلى الأطباء عند الشعور بألم جسدي، ينبغي أن نمنح أنفسنا الحق في طلب الدعم الاجتماعي عند الحاجة.
التعامل مع الاحتراق النفسي لا يقتصر فقط على الأفراد، بل هو مسؤولية مجتمعية تتطلب نشر ثقافة التوازن والدعم، من خلال تعزيز بيئات العمل التي تحترم وقت الموظفين، وتوفير مساحات للنقاش والتفريغ النفسي، والتشجيع على تبني عادات صحية في الحياة اليومية كلها أمور تسهم في الحد من انتشار هذه الظاهرة.
الأهم من ذلك هو إدراك أن السلام النفسي ليس هدفًا يُترك للظروف، بل هو عملية مستمرة تتطلب قرارات واعية يومية للحفاظ على الصحة النفسية والاجتماعية
في النهاية، إن كان هناك درس واحد يمكن استخلاصه، فهو أن الحياة ليست سباقًا يجب خوضه بلا توقف، بل هي رحلة تحتاج إلى محطات للاستراحة والتأمل.
لا تنتظر حتى تفقد شغفك بالكامل، بل خذ خطوة للخلف، راجع حياتك، وأعد ترتيب أولوياتك.
السلام النفسي لا يأتي بمحض الصدفة، بل هو نتاج قرارات صغيرة متراكمة، ووعي مستمر بأهمية العناية بالذات. ومراكز خدمة اجتماعية تفعل بنا يليق ويحافظ على هيبة هذه المهنة العظيمة.