د. سفران بن سفر المقاطي
تعد مكة المكرمة رمزاً للمكانة الروحية العالية في الإسلام، مما يجعلها ملتقى للمؤمنين من شتى الدول والجنسيات؛ ففي هذا الشهر العزيز، تتوحد القلوب في تضرعٍ مشترك، فيتبدد الفوارق الثقافية والاجتماعية تحت راية الإيمان الواحد. إن الطقس الرمضاني في مكة ليس مجرد طقس ديني محدود بالعبادة؛ بل هو انعكاس لتفاعلٍ اجتماعي وثقافي يربطنا بجذورنا الدينية والثقافية مع الحفاظ على خصوصية الهوية العربية والإسلامية. فمكة المكرمة تحتضن روحانيةً ثقافية اجتماعية فريدةً في شهر رمضان المبارك، فهو ذلك الشهر الفضيل الذي يتجلّى فيه البُعد الاجتماعي والثقافي والديني بأبهى صوره، وتتنوع الطقوس والاحتفالات لتجمع بين القلوب في محبة الله والمدينة النبيلة. في هذا المقال الصحفي المستفيض، نستعرض أبعاداً عديدة تُبرز الروح الرمضانية في مكة المكرمة؛ من أجواء العبادة والروحانيات إلى اللقاءات الاجتماعية والتقاليد العريقة التي رسمت بصمتها في قلوب سكانها وزوارها على مرّ العصور. تحتاج مكة المكرمة في شهر رمضان إلى تعريف جديد يجعلنا نُعيد النظر في معنى المكان والزمان في الإسلام؛ فهي ليست مجرد مدينة جغرافية، بل هي محور الإيمان والعبادة الذي يستقطب كل من ينشد القرب من الله. فتتضاعف الأرواح هنا في ليالي رمضان، حيث تتعانق النفوس في المساجد العريقة وتُرفع الأصوات في تلاوة القرآن الكريم بصوتٍ يخفف من وطأة هموم الدنيا. وفي كل زاوية من زوايا الحرم المكي الشريف تُنسَج قصصٌ عن الإيمان والثقة والرجاء، ففي حضوره تتجلى معاني التسامح والرحمة والخشوع.
ومع حلول شهر رمضان المبارك لعام 1446هـ/ 2025م، تحولت مكة المكرمة إلى لوحة فنية تجمع بين القداسة والبهجة. فهي ليست مجرد مدينة مقدسة، بل قلبٌ ينبض بالروحانيات والاجتماعيات التي تُجسد قيم الإسلام في أبهى صورها. يتجلى هذا الشهر في مكة عبر طقوس فريدة، تبدأ من لحظة تحري الهلال وتستمر حتى وداع العشر الأواخر، حيث تزدان الشوارع بالفوانيس، وتنتشر موائد الإفطار، وتُسمع أصوات الدعوات في أرجاء الحرم المكي. هذا المقال يستعرض الأبعاد الاجتماعية والثقافية لرمضان في مكة، وكيف تُحافظ المدينة على عراقتها مع الأخذ بأسباب التطور التقني والعمراني والاجتماعي.
يتخلل شهر رمضان في مكة العديد من الطقوس والتقاليد التي تُبرز الهوية الإسلامية بأبسط صورها وأكثرها جمالاً، حيث يرصّع سكان المدينة والزوار مشهداً من الروحانيات المعطرة برائحة الأذان والتلاوة والعمرة. ففي بداية الشهر تُقام حفلات استقبال خاصة تُركز على التعريف بأهمية رمضان، وتبرز فيها الأناشيد الدينية والتلاوات القرآنية التي تثير الحماس في النفوس. وتتحول ساعات ما بعد الإفطار إلى لقاءات عائلية واجتماعية تجمع بين كبار وصغار مكة تحت سقف واحد، معلنةً عن بدء موسمٍ من التخطيط للنشاطات الخيرية والثقافية.
ومن بين الطقوس الرمضانية النابضة بالحياة ما يُميزها طقس الإفطار الجماعي، الذي يتجمع خلاله أهالي مكة والزوار على موائد مشتركة في ساحات المساجد والساحات العامة؛ ليعيشوا معاً لحظات مفعمة بالمحبة والتآلف، تنسج رابطاً اجتماعياً متيناً يرتكز على قيم الأخوة والتعاون. يُعد هذا الجمع رمزاً للوحدة الإسلامية، إذ تبقى المأكولات الرمضانية التقليدية كالتمر، واللبن، والأطباق المحلية الأخرى شاهداً على تراث ثقافي عميق ينتقل عبر الأجيال. وفي كل عام، يشهد الحرم المكي انسيابية مفاجئة تتجلى في تنظيم الإفطارات الجماعية في أماكن مهيبة تتميز بتنوعها وحسن تنظيمها، لتكون بمثابة رسالة سامية بالإخاء العالمي والتواصل المستمر بين مختلف الثقافات التي تربطها حبال الإيمان الواحد.
يُعد المسجد الحرام قبلة المسلمين خلال رمضان، حيث يُقام صلاة التراويح بمشاركة ملايين المصلين من مختلف الجنسيات. تُقام الصلاة في ليالي رمضان بصوتٍ واحدٍ يجمع بين قراءة القرآن بأصوات مشاهير قراء المسجد الحرام، مما يضفي جوًّا من الخشوع. أما ليلة القدر، التي يُعتقد أنها في العشر الأواخر، فتتحول مكة إلى مدينةٍ لا تنام، حيث يزداد الاجتهاد في العبادة، وتُضاء أروقة الحرم بالمصابيح الذهبية رمزًا للنور الإلهي.
لا يُضاهي الإفطار في مكة أي مكانٍ آخر في العالم خاصة الإفطار داخل وحول المسجد الحرام. يبدأ المصلون بتناول التمر والماء عند أذان المغرب، ثم يتوجهون لصلاة المغرب قبل استكمال وجبتهم. تُعد «موائد الرحمن» أحد أبرز المظاهر، حيث تُقدم وجبات مجانية للصائمين في ساحات الحرم والشوارع المجاورة، بدعم من الجمعيات الخيرية والأفراد، مما يعكس قيم التكافل والتعاضد. أما السحور، فيتميز بأطباق تقليدية مثل «الفول بالسمن» و»الشوربات»، والتي تُعدّ في المنازل أو تُقدم في المطاعم القريبة من الحرم. ولا يخلو المطبخ المكي من التنوع، حيث تُمزج الأطباق المحلية مثل الحنيني (حلوى مصنوعة من التمر والدقيق) مع أطباقٍ من المطبخ الهندي والإندونيسي، والمصري والشامي، نتيجة تنوع الجاليات المقيمة في المدينة. تُقدّم المطاعم القريبة من الحرم وجباتٍ تُلبي أذواق جميع الزوار، من المنسف الأردني إلى البرياني الباكستاني، وتتحول البيوت المكية إلى صالات استقبال بعد الإفطار، حيث تتبارى العائلات في إعداد أطباقٍ مثل الكبسة والسمبوسك وغيرهما.
أما في المجال الاجتماعي والثقافي لسكان مكة تُخصص ليالي للألعاب الشعبية مثل المنقلة والحكايات التراثية. كما تُنظم جلسات السمر التي تجمع الأقارب والأصدقاء، وتُختتم بتناول الشاي السعودي مع حلويات الكنافة والقطايف. وفي الجانب الاقتصادي، تزدحم أسواق مكة مثل «سوق العتيبية» و»مكة مول» بالزوار الذين يتسوقون للاستعداد للشهر الكريم. تشتهر هذه الأسواق ببيع الفوانيس اليدوية المصنوعة من الخشب والزجاج الملون، والتي تُضاء ليلًا لتزيين الشوارع. كما تُباع العطور المكية الشهيرة مثل العنبر والمسك، والتي تُستخدم في تحضير المنازل لاستقبال الضيوف والزوار. كما يُعدّ رمضان في مكة فرصةً لتعزيز قيم العطاء، حيث تُنظم حملات مثل «سقيا الماء» و»كفالة اليتيم». كما تُوزع السلال الغذائية على الأسر المحتاجة، وتُفتح أبواب المساجد والمنازل للوافدين من خارج المدينة، مما يعكس روح الأخوة الإسلامية. وتتنافس الأحياء المكية في تزيين الشوارع بالفوانيس العملاقة والمجسمات الضوئية التي تُشكل آيات قرآنية أو عبارات ترحيبية. كما تُقام معارض فنية في «قصر الزاهر» تعرض قطعًا أثريةً تعود إلى عصور إسلامية مبكرة، مما يربط الحاضر بالماضي. وأدت التحولات التكنولوجية إلى ظهور عادات جديدة، مثل الإفطار الافتراضي عبر منصات التواصل، حيث يُشارك المغتربون لحظات إفطارهم مع عائلاتهم عبر منصات التواصل الاجتماعي والفيديو. كما تُستخدم تطبيقات مثل إمساكية مكة لتذكير الصائمين بمواقيت الصلاة. وبالرغم التمسك بالتقاليد، تواجه مكة تحدياتٍ مثل الازدحام الشديد خلال رمضان، لا سيما مع تدفق ملايين المعتمرين. وللتغلب على ذلك، أطلقت السلطات مبادراتٍ مثل «المواصلات الذكية» وتوسعة الحرم لتسهيل حركة الزوار. كما أدت العولمة إلى ظهور عاداتٍ جديدة، مثل الإفطار في المطاعم الفاخرة، لكنّ الأسر المكية ما زالت تحرص على إعداد وجبات منزلية تحافظ على الروح الجماعية.
وفي الختام، يأتي شهر رمضان في مكة المكرمة ليُضفي عبقاً خاصاً من الروحانية والتآلف الاجتماعي، حيث تتجسد في كل زاوية من زواياها معاني الإيمان والقيم الإسلامية النبيلة. لا يقتصر الأمر على الطقوس الدينية فحسب، بل يمتد ليشمل التقاليد الاجتماعية والثقافية التي تعزز من وحدة المجتمع وترابطه. ففي لحظات الإفطار تحت أضواء الحرم المكي، تُعاش تجربة فريدة تجمع بين الخشوع والفرحة، معلنةً عن بدء ليلة من العبادة والتأمل. وفي الساحات والأحياء العتيقة، تُنسج قصصٌ من العطاء والتعاون، تعكس روح الإسلام الحقيقية في أبهى. وإن كانت مكة تواجه تحديات العصر من ازدحام وتدفق الحشود، إلا أنها تبقى رمزاً للصمود والتطور، محافظةً على هويتها العريقة وقيمها الراسخة. إن رمضان في مكة ليس مجرد فترة زمنية، بل هو تجربة حياة تتجدد كل عام، تُذكّرنا بأهمية الإيمان والعمل الصالح، وتدعونا إلى التفكر في معاني الحياة الحقيقية، والإسهام في بناء مجتمع أفضل، قائم على المحبة والتسامح والعدالة.