عبدالمحسن بن علي المطلق
أتدرون أن هناك من الآن يفكّر في العيد.. أقصد يخطط له، من ملبس وغيره!
ولا شك أنه -الدنيا - بآخر الزمان تتسارع، وإلا لا فرق بين الساعة مقدارها الزمني.. بين الأمس واليوم، ربما وجود ملهيات كثيرة ويسر معيشة -والحمد لله-، وأسباباً أخرى جعلت من الزمان يطوي من سجلّه دون وعي منّا سوى لمما!، فالغفلات للأسف تعتري غالب أوقاتنا..
والعاقل الحصيف هو الذي يُقنن إدارة وقته ويحسن مسك مقود زمانه، كي لا يمضي العمر فُرطاً أو يكون هو في أشراطه سبهللاً..!
أقول بهذا بعد أن وقعت على دلالة نفيسة لمعنى أعمق للصيام، لأن ظاهره المادي هو الانقطاع عن المأكل أو المشرب، وحتى الكلام، كما دلّت الآية: {إِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا} سورة مريم، قال ابن كثير -رحمه الله- (أي بالإشارة، لأنها لو قالته باللفظ أفسدت نذرها الذي نذرته «ألا تكلم اليوم إنسيا»، فإذا قالت لإنسي بلسانها: إني نذرت للرحمن صوماً، فقد كلمت ذلك الإنسي فأفسدت نذرها..) وعوداً لذاكم العمق وكملامح كبرى أشار لها في تفسيره الجليل الطاهر بن عاشور -رحمه الله برحمته الواسعة-.. وهو في أجواء آية: {أَيَّاماً مَّعدُودَت، فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَو عَلَى سَفَر فَعِدَّة مِّن أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى لَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِديَة طَعَامُ مِسكِين فَمَن تَطَوَّعَ خَيراً فَهُوَ خَير لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَير لَّكُم إِن كُنتُم تَعلَمُونَ} (184) بإثرائه أنه -أي الصوم -.. (بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو تركِ بعض المأكل، وهذا أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة الكدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان، بناء على أن للإنسان قوتين: إحداهما رُوحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعةً تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المُحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه، وكان نقصانه يقَتِّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولَها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان، بحيث يصير لا حَظَّ له في الحيوانية إلاّ حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادِها للعوالم الأخروية، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعيةالصيام في الملل، ووضعيته في حكمة الإشراق)، وهذه -الإشراق- حكمة تقوم على التعادل والترجيح بين القوتين، وهو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حِكمة الإشراق.. والإشراق أو (الفلسفة الإشراقية) مبنية على الكشف والشهود، أسسها شهاب الدين السهروردي، إذ ذكر أن أصل فلسفة الإشراق هم حُكماء الفرس، واليونان، ومصر، والهند، وبابل من القدماء لكن تمّ إهمالها بعد أرسطو، بعد (أو بسبب) النظرة الظاهرية من قِبل أتباع الفلسفة المشائية، والاكتفاء بالبحث الاستدلالي... والاستدلال.. لعل زاد من مرامه القائل (أنا أُفكر إذا أنا موجود)!