علي حسن حسون
حزمتُ أمتعتي، وشددتُ رحالي، متأهبًا لرحلةٍ لطالما راودتني في الأحلام، وحانت لحظة تحقيقها. وجهتي ليست مجرد مكان، بل شغفٌ ظلَّ ينمو في أعماقي، وطنٌ لروحي قبل أن يكون موطنًا على الخارطة.
هناك، حيث يمتزج عبق الماضي بسحر الحاضر، حيث الأريج الذي لا شبيه له، والنسيم الذي يحمل معه حكايات الزمان، سأسير بخطى متلهفة، أستقي من ينابيعها العذبة، وأتنفس رائحتها التي تفيض نقاءً ودهشة.
لا جدال في جاذبيتها، ولا مجال للمقارنة، فهي الحلم الذي يرفض أن يكون واقعًا عابرًا، بل قدرٌ كُتب أن أعيشه بكل تفاصيله.
ذلك المكان ليس إلا أرضًا جرداء، بلا سهولٍ أو هضاب، بل أرضٌ قاحلة، خاليةٌ لا زرع فيها ولا خضرة، ذات رمالٍ كثيفةٍ وتلالٍ تحيط بأطرافها، وعلى تخومها يجري نهرٌ عذب المذاق، يستقي منه الذين يقطنون الضواحي المجاورة لذلك المكان.
حينما أوشكتُ على الرحيل، انتابني شعورٌ غريبٌ للغاية، وللوهلة الأولى لم أشعر به من قبل؛ فقد امتزج الشوق والحنين برهبةٍ شديدة، فلم أدرك طبيعة ذلك الشعور وقفتُ متحيرًا، مخاطبًا ذاتي: أهذا هو العشق الذي طالما سمعتُ عنه ولم أدركه؟ عندها رفعتُ بصري نحو السماء، شاكرًا وحامدًا لمن هو أهلٌ لذلك، أن منحني الوقت لأعيش لحظة العشق هذه، وأن وهبني الطريق الذي أسلكه للوصول إلى ذلك المعشوق.
تراكضت خطواتي، وسبق قلبي قدميّ لهفةً وشوقًا لمن قطعتُ المفازات لأجله، وما إن لاحت علاماتُ تلك البقعة التي سكنها معشوقي، حتى هبّ وابلٌ من النسمات يعطر المكان، ممزوجًا بروائح الطيب التي غمرتني منذ وصولي إلى أطراف البلدة. كان الإحساس الأول الذي راودني أن معشوقي أخبر من في المكان بقدومي، ونثر عبقه في أرجاء المكان، معبرًا عن مدى لطفه وكرمه، الذي بات واضحًا على ملامح الحيز الذي يحتويه، ابتهاجًا بمن يقصده.
أما عن الصوت الأول الذي تراءى لمسامعي، فكان صوت حبيبي ومعشوقي، مرحبًا ومهللًا بجميع أنواع التراحيب. أما عن حالي وأنا أقترب شيئًا فشيئًا من تحقيق حلمي، فلم أنتبه إلا وقد غرقتُ في دموعي، فلم أعد أشعر بشيءٍ آخر سوى أنني قد وصلت، ودموعي تنهمر بلا توقف. وهذه هي المرة الأولى التي لم أخجل فيها، بل كنتُ بكامل جرأتي وكبريائي، فأنا في بلد المعشوق، وقد بلغتُ مُنتهاي وغايتي.
قد تكون هذه الرحلة فعلًا «رحلة عشق»، لكن تساؤلات كثيرة تخطر في البال، كما هو الحال عند كل من عشق وهام في حبه.
هل العشق غايةٌ نبلغها، أم أنه الرحلة ذاتها، بكل ما تحمله من شوقٍ ولهفةٍ وانتظار؟ هل هو ارتباطٌ بالمكان أم انجذابٌ للروح التي تسكنه؟ أم أنه انعكاسٌ لما نحمله داخلنا، فتجسّده الأماكن واللحظات؟
لكن هل للعشق نهاية، أم أنه قدرٌ يتجدد مع كل خطوة نخطوها؟ وهل الوصول إليه حقيقة، أم أنه بدايةٌ لعشقٍ جديد؟
ربما يبقى العشق سؤالًا بلا إجابة، لكنه يظل أثرًا خالدًا يسكن القلب، حتى وإن غابت الأقدام عن دروبه.