عبدالرحمن الحبيب
لا شك بأن الألعاب ممتعة، لكن هناك ما هو أبعد من ذلك، فنحن نمارس اللعب لكي نتعلم ونتعرف على العالم، ولنفهم عقولنا وعقول الآخرين، ونمارس التنبؤ بالمستقبل، حسبما تذكر بروفيسورة علم الأعصاب والفيزياء كيلي كلانسي التي تؤكد أن الألعاب أقدم من اللغة المكتوبة، زاعمة أنها أصبحت الآن الوسيلة الثقافية المهيمنة أكبر من الأفلام والتلفزيون والموسيقى والأدب مجتمعة، ولكن كلانسي تحذر بأنه حان الوقت لنبدأ في أخذ الألعاب على محمل الجد، لأنها يمكن أن تكون خطيرة، خاصة عندما نخطئ ونخلط بين نماذج عالم الألعاب والواقع نفسه ونسمح للعبة بالسيطرة على عملية صنع القرار البشري.
هذا ما تطرحه كلانسي في كتابها «اللعب مع الواقع: كيف شكلت الألعاب عالمنا؟» (How Games Have Shaped Our World) في تحليل مثير للجدل جريء وعميق في ذات الوقت، فالكتاب رغم ما يبدو من مبالغة في طرحه فهو مثير للتفكير خارج الصندوق ولتساؤلات جديدة حين يكشف عن أن الألعاب قد تكون مخفية في السياسة أو الحرب أو الأعمال التجارية، وليس فقط في العمل واللعب اليومي الذي تصفه في كتابها بأنه قد يكون عملا إدمانيا وممتعا مثل الألعاب؛ حيث تكشف المؤلفة عما ترى أنه الدور الخفي الذي لعبته الألعاب في التطور البشري على مدى قرون، وعن أهمية الألعاب للتقدم البشري لدرجة أنها المفتاح لفهم طبيعتنا وأفعالنا، إنما تنتقد «كيف أصبحت الألعاب تهيمن على الفكر الحديث»، محذرة أن الخطورة عندما ننسى الألعاب التي نلعبها حقًا، فإذا لم نكن نعرف أننا نلعب، فهناك احتمال أن تلعب بنا الألعاب!
يذكر الكتاب أن الألعاب تبدأ في حياتنا قبل أن نتعلم النطق، فمواد اللعب تعرض على الأطفال حديثي الولادة: خشخشة يهزها، حيوان محشو يضغط عليه، مكعبات لتكديسها، لعبة يلويها، ومن خلال هذه الألعاب، يبدأ الطفل في ممارسة حواسه باللمس والاستماع وتمييز الأشكال والألوان؛ وسرعان ما يبدأ العالم في الكشف عن نفسه كنوع من اللعبة، والتي يجب على الطفل أن يتعلم قواعدها إذا كان يريد البقاء على قيد الحياة، فمثلاً يمكن أن يؤدي البكاء إلى إعطاء شيء ما أو أخذه، والابتسامة تتلقى ابتسامة في المقابل، وفي كل مرة يكتشف فيها الطفل قاعدة جديدة، يفرز دماغه خلايا الدوبامين التي تعزز ذكرى الاكتشاف، ثم يبدأ الطفل في التعلم والتخطيط، ورسم معالم الواقع.
كتبت كلانسي: «يبدو كل شيء بالنسبة للأطفال وكأنه خطأ في التنبؤ لأنهم لا يملكون أي تنبؤات، وكل تجاربهم تقريباً هي مفاجأة خالصة» ولهذا السبب، تشرح كلانسي، فإن الأطفال «يشعرون بالحافز لاستكشاف كل شيء فهم يتوقون إلى الاكتشاف، وعندما يولدون فجأة في لعبة الحياة، سرعان ما يصبحون مدمنين على اللعب».
أيضاً تتناول كلانسي التاريخ المثير والمخفي للألعاب منذ عصر التنوير وألعاب الحظ القديمة إلى أحدث التطورات في الذكاء الاصطناعي، ناسجة مسارًا غير متوقع عبر النظرية العسكرية وعلم الأحياء وعلم الأعصاب وعلم النفس الإدراكي ومستقبل البشرية، لتُظهر لنا أن الألعاب كانت متشابكة بشكل عميق مع مسار التاريخ، زاعمة أن ألعاب الحرب شكلت نتائج الحروب الحقيقية في أوروبا في القرنين التاسع عشر والعشرين.
وبطرح يبدو مبالغة، ترى كلانسي أن نظرية الألعاب شوهت فهمنا للسلوك البشري وأوصلتنا إلى حافة الفناء، ومع ذلك لا تزال تشكل أساسًا لافتراضات أساسية في الاقتصاد والسياسة وتصميم التكنولوجيا، موضحة أننا قد استخدمنا الألعاب لتعليم أجهزة الكمبيوتر كيفية التعلم من تلقاء نفسها، والآن نقوم بتصميم ألعاب من شأنها أن تحدد شكل المجتمع ومستقبل البشرية؛ كما تعمل الألعاب على إعطاء معلومات الأنظمة الأساسية التي تحكم حياتنا اليومية: وسائل التواصل الاجتماعي والتكنولوجيا التي يمكن أن تشوه تفضيلاتنا، وتستقطبنا، وتصنع رغباتنا.
تقدم كلانسي حججاً جريئة وصادمة بأن الافتتان البشري بالألعاب هو المفتاح لفهم طبيعتنا وأفعالنا، وأيضاً تقدم نظرة «متشائمة» حول كيفية تأثير نظرية الألعاب على الذكاء الاصطناعي، لكن رغم ما يبدو من غرابة الطرح ومبالغته فإنه قد يغير نظرة القارئ للألعاب وقواعد اللعب ويحفزه على إعادة التفكير في اللعب والألعاب، حتى أن مؤسس شركة أتاري نولان بوشنيل كتب أنه: «يجب أن يكون هذا الكتاب قراءة إلزامية لأي شخص يطور الألعاب وكل من يلعبها»؛ فالكتاب يمثل تاريخا فكريا شاملا للألعاب وأهميتها للتقدم البشري.
في موقعها بالإنترنت تقول المؤلفة أن لعبة حرب ساعدت في ترسيخ الإمبراطورية الألمانية في القرن التاسع عشر وأسهمت في حلها في القرن العشرين، كما أسهمت الألعاب في الفلسفة الأخلاقية، وشكلت الأساس للعديد من أدوات الإنترنت لدينا، ووفرت معلومات لتصميم أنظمة التصويت الأفضل والأسواق الناشئة، كما توضح أن الألعاب تعلمنا دروسًا مهمة حول كيفية تفكير الناس «الألعاب هي مرايا للعقل».
أخيراً تقول المؤلفة: اليوم، أصبحت الألعاب استعارة ثقافية مهيمنة وأكثر شعبية من أسواق الترفيه الأخرى مجتمعة، ولكن من المهم أن نتذكر أن الألعاب عبارة عن خيالات تكافئنا على تصديقها، ويتعين علينا أن نحرص على عدم الخلط بين نماذجنا للواقع والواقع نفسه.