د. سفران بن سفر المقاطي
الرعي، وهو من أقدم المهن التي عرفها الإنسان، يحمل في طياته تاريخًا طويلاً وثريًا يعكس تراث وثقافة الشعوب. إذ إنه في العالم العربي، يمثل الرعي جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية للكثيرين، خاصة في المناطق الريفية والصحراوية في عدد من الدول العربية، وقد يكون فيها مصدرًا رئيسيًا للرزق والأمن الغذائي. وبذلك يعد الرعي عنصرًا مهمًا في تشكيل الهوية الثقافية والاقتصادية للعرب. لذا في هذا المقال، سنستعرض تاريخ الرعي في العالم العربي، وأهميته الثقافية، والحياة اليومية للرعاة، والتحديات المعاصرة، والتحولات التكنولوجية في هذا المجال.
عرف العرب الرعي منذ آلاف السنين، حيث كانت القبائل البدوية تعتمد على رعاية الأغنام والماعز كمصدر رئيسي للغذاء والرزق. ومع تطور المجتمعات، أصبح الرعي جزءًا لا يتجزأ من الاقتصادات المحلية والتجارة. وكان للرعي دور حيوي في بناء المجتمعات العربية القديمة، حيث كانت القبائل تعتمد على تنقلاتها الموسمية بناءً على توفر المياه والمراعي. وقد أسهم هذا النمط من الحياة في تشكيل الثقافة البدوية التي تتميز بالكرم، والشجاعة، والقدرة على التكيف مع الظروف الصعبة.
وفي الثقافة العربية، يُعد الرعي أكثر من مجرد مهنة؛ فهو يعبر عن جوانب كثيرة من الهوية والتراث والثقافة العربية على مر العصور. ويظهر الرعي بشكل بارز في الأدب والشعر العربي، حيث تناول الشعراء حياة الرعاة، ووصفوا مناظر الصحراء والرعي في قصائد عدة، يتضح منها أهمية الرعي في الحياة اليومية، ودور الرعاة في تبني قيم الأصالة والتضحية. فعلى سبيل المثال، في الشعر العربي الجاهلي، نجد الكثير من الأبيات التي تصف حياة الرعي ومعاناة الرعاة في الصحراء. منها ما ورد في معلقة الشاعر الشهير طرفة بن العبد؛ إذ إنه في أحد مقاطعها، يصف حياة الرعي والتنقل بين المراعي بقوله:
لِخَولَةَ أَطلالٌ بِبُرقَةِ ثَهمَدِ
تَلوحُ كَباقي الوَشمِ في ظاهِرِ اليَدِ
وُقوفاً بِها صَحبي عَلَيَّ مَطيَّهُم
يَقولونَ لا تَهلِك أَسًى وَتَجَلَّدِ
كَأَنَّ حُدوجَ المالِكيَّةِ غُدوَةً
خَلايا سَفينٍ بِالنَواصِفِ مِن دَدِ
عَدَوليَّةٌ أَو مِن سَفينِ اِبنِ يامِنٍ
يَجورُ بِها المَلّاحُ طَوراً وَيَهتَدي
يَشُقُّ حَبابَ الماءِ حَيزومُها بِها
كَما قَسَمَ التُربَ المُفايِلُ بِاليَدِ
سَتُبدي لَكَ الأَيّامُ ما كُنتَ جاهِلاً
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تُزَوِّدِ
وَيَأتيكَ بِالأَخبارِ مَن لَم تَبِع لَهُ
بَتاتاً وَلَم تَضرِب لَهُ وَقتَ مَوعِدِ
في هذا المقطع، يصف طرفة بن العبد كيف يقف الرعاة عند الأطلال وكيف يتذكرون أيامهم في البرية. يتحدث عن التنقل بين المراعي والصعوبات التي يواجهونها أثناء رحلاتهم الطويلة بحثًا عن الماء والعشب.
كما أن الحكايات الشعبية مليئة بالقصص التي تدور حول الرعي والرعاة، مما يعزز دوره في الحفاظ على التراث والثقافة العربية. مثال ذلك إحدى الحكايات الشعبية الشهيرة التي تصف حياة الرعي والرعاة في العصر الجاهلي هي قصة «عروة بن الورد»، وهو شاعر وفارس من بني عبس، عُرف بكرمه وشجاعته. وفي أحد الأيام، كان عروة بن الورد يجول في الصحراء مع قطيعه بحثًا عن مرعى جديد. وقد كان عروة مشهورًا برعايته الفائقة لأغنامه واهتمامه الكبير بتحسين حياة قومه. وفي أثناء رحلته، التقى بمجموعة من الناس الذين كانوا يعانون من الجوع والعطش، ولم يتردد عروة في دعوة هؤلاء الناس إلى خيمته، حيث قدّم لهم ما عنده من طعام وشراب، وشاركهم قصصه وحكاياته حول حياة الرعي، وتحدث عن الصعوبات التي يواجهها الرعاة في الصحراء، مثل ندرة المياه والمراعي والحيوانات المفترسة التي تهدد القطيع، وبالرغم من تلك الظروف الصعبة والتحديات الكبيرة، لم يتوان عروة عن مساعدة الآخرين وتقديم ما يمكنه من عون.
هذه الحكاية تعكس مدى التضحية والكرم الذي كان يتمتع به الرعاة في العصر الجاهلي، وكيف كانت روح التعاون والتكاتف تُعد جزءًا لا يتجزأ من ثقافة حياتهم اليومية.
وكعمل ميداني يومي تراثي، تبدأ يوميات الراعي عادةً في وقت مبكر من الصباح، حيث يقود قطيعه إلى المرعى، إلى قبيل غروب الشمس. ويتطلب الرعي مهارات متعددة مثل إدارة القطيع، وحماية الحيوانات من الافتراس، وضمان توفير الغذاء والماء الكافي، بالإضافة إلى التطبب وعلاج القطيع. ويعيش الرعاة في تناغم مع الطبيعة، ويعتمدون على معرفتهم العميقة بالبيئة المحيطة لتحسين أداء عملهم مع استخدام بعض الأدوات التقليدية التي يستخدمها الرعاة تشمل العصا للسيطرة على القطيع، والكلاب لحمايته، والخيام المتنقلة للسكن. ورغم بساطة الحياة، تواجه الرعاة العديد من التحديات اليومية مثل التغيرات المناخية والأمراض الحيوانية.
لكن مع التطورات الحديثة، تواجه مهنة الرعي العديد من التحديات. فالتغيرات المناخية والجفاف تؤثر بشكل كبير على مصادر المياه والعشب، مما يضطر الرعاة إلى التحرك لمسافات أطول للعثور على مراعي مناسبة. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي التوسع الحضري إلى تقليص مساحات الرعي، مما يجعل من الصعب العثور على أماكن مناسبة للرعي. كما تمثل الأمراض الحيوانية أيضًا تحديًا رئيسيًا، حيث يمكن أن تؤدي إلى خسائر كبيرة في القطيع. تتطلب هذه التحديات تقديم رعاية بيطرية متطورة وتحسين الإدارة الصحية للحيوانات. وفي السنوات الأخيرة، شهدت مهنة الرعي تحولات نتيجة للتقدم التكنولوجي. فاستخدام النظام الجيولوجي (GPS) لمتابعة القطيع وتحسين إدارة المراعي أصبح شائعًا بين الرعاة. كما أن التقنيات البيطرية المتطورة تساعد في الكشف المبكر عن الأمراض ومعالجتها. كما عززت التكنولوجيا من كفاءة الرعاة وتسهم في تحسين جودة الحياة لديهم. من خلال تبني التقنيات الحديثة، يمكن للرعاة تقليل التحديات التي يواجهونها وزيادة إنتاجيتهم.
وأخيرا، الرعي ليس مجرد مهنة قديمة وانتهى وقتها، بل هو جزء لا يتجزأ من التراث والثقافة العربية الاصيلة والعادات الاجتماعية؛ إذ ما زال الرعي كممارسة ومهنة مستمر حتى وقتنا الحاضر محافظ على أصالته ومستفيد من التطورات التكنولوجية والتشريعات الإدارية الحكومية خاصة في المملكة العربية السعودية. وعلى الرغم من التحديات التي تواجه هذه المهنة في العصر الحديث، ما تزال وستظل تؤدي دورًا حيويًا في حياة الكثيرين في الدول العربية، لأن الحفاظ على مهنة الرعي وتقديرها ضرورة للحفاظ على التراث والثقافة العربية للأجيال القادمة.
وهذه دعوة لتوثيق حياة الراعي في صورها الأولية قبل دخول التقنية، وجعلها منتجًا تراثيًّا ثقافيًّا نحافظ عليه، ونقدمه للأجيال.