د.عبدالله بن موسى الطاير
أسابيع خضّت تحالفات سياسية كنا نظن أنها راسخة، فالتحالفات التي تشكلت بعد الحرب العالمية الثانية، وصمدت لنحو ثمانية عقود تختبر اليوم اختبارًا عسيرًا، أتصمد أم يعاد تشكلها وفق معطيات جديدة.
تأسيس الحلف الغربي أثناء وبعد الحرب العالمية الثانية، كان عملية معقدة مدفوعة بمصالح إستراتيجية وقيم متماهية، لمواجهة التهديدات المشتركة. وقد تأسس هذا التحالف، الذي ضم أوروبا والولايات المتحدة ودول ديمقراطية ليبرالية أخرى كاليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا على أساس القيم الديمقراطية المشتركة، والأمن الجماعي، والتعاون الاقتصادي، والمعارضة المشتركة للأنظمة الشمولية.
وعبّر ميثاق الأطلسي الذي وقع عام 1941م من قبل فرانكلين روزفلت ورئيس الوزراء ونستون تشرشل، عن هذه القيم المشتركة، بما في ذلك تقرير المصير والتعاون الاقتصادي والتخلي عن العدوان الإقليمي، واعتبر هذا الاتفاق مفهوم الأمن الجماعي محوريًا للتحالف الغربي، بمعنى أن الهجوم على أحد الأعضاء سيُعتبر هجومًا على الجميع، وبالتالي ردع العدوان من خلال الدفاع المتبادل، ليتم إضفاء الطابع المؤسسي على هذا المبدأ في منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي تأسست في عام 1949م من خلال المادة الخامسة.
نظر هذا الحلف إلى الاستقرار السياسي والازدهار الاقتصادي على أنهما ضروريان للحيلولة ضد الصراعات المستقبلية، وعزز الحلفاء الغربيون التجارة الحرة والتعاون الاقتصادي وإعادة بناء المجتمعات التي مزقتها الحرب، لكنهم في الوقت ذاته لم يعملوا على احتواء الأزمات التي خلفوها في العالم سواء في فلسطين، جاموا وكشمير أو البلقان، وهو ما أوجد فجوة كانت كفيلة بتقسيم العالم إلى: أولا: تتربع على عرشه الدول الغربية، وثانيا يتسع حظيظه لبقية دول العالم.
لقد سخرت أمريكا والدول الديموقراطية الغربية بقية دول العالم لخدمة مصالحها والمحافظة على أمنها من خلال احتواء المد الشيوعي، ومحاربة الإرهاب، وتزويدها بالطاقة، والمعادن النادرة، وفي المقابل تحصل الدول الصديقة للمحور الغربي على بعض المساعدات أو الصداقات الدفاعية الاستراتيجية التي تخدم الدول الغربية في المقام الأول.
آمن الحلفاء الغربيون بأهمية المؤسسات الدولية لتسهيل التعاون وحل النزاعات وتعزيز الاستقرار العالمي، بيد أنهم سخروا المنظمات الدولية لمصالحهم أولا، ولذا فإن عشرات القرارات صدرت عن مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص فلسطين لم ينفذ منها شيء، كما أن الفترة المعاصرة أثبتت أن حقوق الإنسان ومعاهداتها، ليست سوى ميزات للدول الغربية، فإذا تعارضت مع مصالحها وتوجهاتها فإنها عديمة القيمة، وقد برز ذلك بوضوح في ازمة غزة التي اندلعت عام 2023م ولم تتمكن أي منظمة دولية من إيقاف المجازر الصهيونية لأن هناك دولا غربية تقف بوضوح إلى جانب المعتدي في مخالفة صارخة للقيم التي طالما حاربت من أجلها وغيرت الأنظمة وأحدثت الفوضى. لذا فإنه وعلى الرغم من أن الأمم المتحدة ضمت جميع القوى المتحالفة المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، إلا أن الحلفاء الغربيين لعبوا دورًا رائدًا في إنشائها وتوجيه عملياتها المبكرة، وتحكموا في مخرجاتها لاحقًا.
قبل الحرب العالمية الثانية، كانت التحالفات والائتلافات الدولية تتشكل من خلال تفاعل معقد بين المصالح الجيوسياسية، وموازين القوى، والإستراتيجيات الدبلوماسية المتغيرة. وكانت هذه التحالفات غالبًا ما تكون متغيرة وتتحرك وفقًا لاحتياجات إستراتيجية فورية بدلاً من التحالفات الإيديولوجية طويلة الأجل. ومهدت تلك التحالفات الطريق للائتلافات ذات التوجهات الإيديولوجية في عصر الحرب الباردة وما بعدها والمتمثل في التحالف الليبرو ديموقراطي الذي نشأ بعد الحرب الثانية. ومنذئذ فإن إن التوافق بين البلدان على أساس القيم المشتركة أو المعارضة يعكس استمرار هذه الأنماط التاريخية التي كان ينظر لها على أنها راسخة لا تتزعزع.
يمكن القول إن المخاوف على ديمومة الوضع الراهن في العلاقات الدولية مشروعة أكثر من أي وقت مضى، غير أن ذلك مرتبط بما إذا كان الرئيس الأمريكي يعمل وفق إستراتيجية معدة سلفا لإحداث تغيير في طبيعة التحالفات الدولية وشكلها، وهو ما يؤشر إلى تغير عميق في العلاقات الدولية لا يختلف عن ذلك الناشئ بعد تأسيس الأمم المتحدة عام 1945م، أم أن ما رشح حتى الآن من قرارات وتصريحات ومواقف ليس سوى ضغوط تفاوضية على الأعداء والأصدقاء لتحقيق مصالح أمريكية خالصة تلبي نهم الجمهور الذي صوت للرئيس دونالد ترامب بمنأى عن القيم المشتركة التي انعزل بها الغرب في برجه العاجي مبتعدا عن بقية دول العالم.