هادي بن شرجاب المحامض
في خطوة أمنية تعكس الرؤية الطموحة لقيادة المملكة، وجّه صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، باستحداث الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص. هذه المبادرة ليست مجرد إضافة إدارية، بل خطوة استراتيجية تعكس وعيًا عميقًا بالتحديات التي تواجه المجتمع السعودي في ظل التحولات الاقتصادية والاجتماعية المتسارعة.
خلال أيامها الأولى أثبتت الإدارة الجديدة فاعليتها بشكل لافت حيث نفذت عمليات أمنية نوعية بالتنسيق مع الأمن العام. لم يكن الأمر بحاجة إلى أسابيع أو شهور لإظهار النتائج؛ ففي غضون أربعة أيام فقط، تم القبض على ثلاث وافدات، في خطوة حازمة تستهدف حماية الآداب العامة وقطع الطريق أمام أي أنشطة تمس أخلاقيات المجتمع. وفي جدة، ضبط الأمن خمسة وافدين يمارسون أفعالًا منافية للأخلاق، ما يعكس يقظة أمنية عالية ورغبة واضحة في الحفاظ على الفضاء العام من أي تجاوزات.
لكن ربما كانت العملية الأبرز هي تفكيك شبكة إجرامية مكونة من 14 وافدًا من الجنسية اليمنية، كانت تستغل 27 طفلًا في شوارع الرياض للتسول. في مشهد يجسد القيم الإنسانية والأمنية معًا، تم نقل الأطفال إلى مراكز متخصصة لحمايتهم، في رسالة واضحة بأن استغلال البشر، وخاصة الأطفال، لن يُسمح به تحت أي ظرف. هذه الإجراءات السريعة والفعّالة ليست فقط عمليات أمنية، بل خطوات تعكس التزام المملكة بحماية كل من يعيش على أرضها، سواء مواطنًا أو مقيمًا.
ورغم أن إنشاء الإدارة العامة للأمن المجتمعي يبدو كخطوة أمنية بحتة إلا أن السياق أعمق بكثير. المملكة اليوم في قلب تحولات ضخمة ضمن رؤية 2030.
وهذه التحولات لا تقتصر على الجانب الاقتصادي فحسب بل تشمل أيضًا جوانب اجتماعية وثقافية تتطلب منظومة أمنية مرنة وقادرة على مواجهة الجرائم المستحدثة مثل الاتجار بالبشر، التحرش، الجرائم الإلكترونية، والاستغلال بمختلف أشكاله.
الدكتور يوسف أحمد الرميح، أستاذ علم الجريمة ومكافحة الإرهاب بجامعة القصيم، أشار في حديثه للعربية إلى أن (المجتمع السعودي اليوم يواجه جرائم جديدة تستدعي دراسات علمية تطبيقية، مثل الابتزاز الإلكتروني، التشهير، واختراق الأجهزة الذكية) وهي تحديات لم تكن مألوفة قبل سنوات، لكنها اليوم باتت واقعًا يفرض على الأجهزة الأمنية التكيّف سريعًا، ليس فقط من خلال الملاحقة، بل عبر استراتيجيات وقائية مدروسة.
ما يميز الإدارة الجديدة هو تكاملها مع المديرية العامة للأمن العام ما يضمن تنسيقًا سريعًا وفعّالًا مع الجهات المختصة، سواء على المستوى المحلي أو الدولي. مهمتها ليست فقط في ضبط الجريمة بعد وقوعها، بل في العمل بشكل استباقي على تفكيك الشبكات الإجرامية والقضاء عليها من جذورها، وهو منهج حديث في العمل الأمني يعتمد على الهجوم بدلًا من الدفاع، وعلى الوقاية بدلًا من العلاج.
المجتمع السعودي، بدوره، تفاعل مع هذه الخطوة بحماس ملحوظ. فمواقع التواصل الاجتماعي شهدت زخمًا كبيرًا، حيث عبّر المواطنون والمقيمون عن ارتياحهم لهذه المبادرة، معتبرين أنها ستكون حائط صد قويًا أمام السلوكيات التي تهدد النسيج الاجتماعي. كثيرون رأوا أن مكافحة الاتجار بالبشر واستغلال الأطفال والتصدي للجرائم الأخلاقية ليست فقط مسؤولية أمنية، بل واجب ديني وإنساني يعكس التزام المملكة بحماية من يعيشون على أرضها أياً كانت جنسياتهم.
وسائل الإعلام المحلية لم تتوانَ عن تسليط الضوء على مهام الإدارة الجديدة، مع التركيز على الجانب الإنساني في عملها، خاصة فيما يتعلق بحماية الأطفال والنساء من الاستغلال. تقارير عديدة رصدت قصصًا مؤثرة حول ضحايا شبكات التسول والاتجار بالبشر، وأكدت أن نقل الأطفال الذين تم استغلالهم إلى مراكز متخصصة خطوة حضارية تظهر الوجه الإنساني للأمن السعودي.
الإشادات لم تأتِ فقط من الداخل؛ مؤسسات حقوقية دولية نوّهت بمبادرة السعودية في إنشاء إدارة متخصصة لمكافحة الاتجار بالبشر، معتبرةً أنها خطوة نموذجية في محاربة جريمة عابرة للحدود تتطلب تعاونًا دوليًا حثيثًا. هذا الاعتراف الدولي يعكس الثقة المتزايدة بدور المملكة في محاربة هذه الجرائم وفق معايير إنسانية وأمنية متقدمة.
على المستوى المجتمعي، يدرك السعوديون أكثر من أي وقت مضى أن الأمن المجتمعي ليس مسؤولية الأجهزة الأمنية وحدها بل هو مسؤولية جماعية تتطلب وعيًا مجتمعيًا وإدراكًا بأن الإبلاغ عن السلوكيات الخطرة والاستغلال هو جزء من حماية الوطن وأبنائه.
استحداث الإدارة العامة للأمن المجتمعي ومكافحة جرائم الاتجار بالأشخاص ليس مجرد قرار إداري، بل خطوة تعكس رؤية عميقة لأهمية الأمن الشامل الذي لا يقتصر على ضبط الجريمة، بل يتعداه إلى تعزيز سلامة المجتمع، حماية الفئات المستضعفة، وحفظ كرامة الإنسان.
هذه الإدارة الجديدة، بما تحمله من مهام ومسؤوليات، ستكون محورًا أساسيًا في الحفاظ على التماسك المجتمعي، وخلق بيئة آمنة تتواءم مع طموحات المملكة في بناء مجتمع حيوي وآمن. الرسالة اليوم واضحة: السعودية الجديدة لا تتسامح مع استغلال البشر، ولا تسمح بأن تُمس كرامة أي إنسان يعيش على أرضها. هذه ليست حملة أمنية عابرة.
هذا استثمار في الإنسان، في أمنه، في كرامته، وفي مستقبل وطن يُبنى بسواعد الجميع، ويحميه الجميع.