د. محمد بن إبراهيم الملحم
في هذه المقالة سأتحدث لكم عن عدد من التناقضات التي لا تحدث إلا في رمضان، وهذا من العجب العجاب، وربما بعضكم يعرف بعضها ولكن سأستعرض تناقضات ربما تكون أول مرة تمر على كثير من الناس.
وأول هذه التناقضات هو توقيت دوام رمضان ففي حين أن الدوام العادي قبل رمضان يبدأ السابعة أو الثامنة فإنه يتوقع أن يبدأ الخامسة أو السادسة في رمضان ذلك أن الناس انتهوا من أكله السحر وصلاة الفجر والموظف (أو الطالب) مستيقظ ومن الأفضل أن يذهب إلى الدوام، بينما الذي يحصل هو العكس فيتم تأخير الدوام إلى التاسعة أو العاشرة ليحصل النوم القليل جدا والذي لا يؤهل لإنتاجية جيدة أو تركيز مناسب، وإني أعلم أن هذا الأمر فيه نقاش وجدال طويل وليس بالمسألة الجديدة، ولكن بدأت بها لشهرتها كتناقض وسيظل هذا التناقض الظاهري بارزا للوجود متسقا مع الحدس المنطقي البسيط ومتحديا لحياة رمضانية يشعر صاحبها بالتعب وعدم انتظام دورة النوم والاستيقاظ لهذا التوقيت المتناقض مع توقيت الصيام.
التناقض الثاني، هو أن رمضان شهر طاعة وعبادة وذكر لله عز وجل وفيه صلاة تسمى صلاة التراويح مدتها أطول من الصلوات الأخرى، وحيث يتوقع أن القنوات الإعلامية تعطي فرصة لهذه الصلوات ولهذه العبادة ثم تبدأ برامجها الشيقة بعد ذلك، فإن العكس يحصل فهي تبدأ في نفس توقيت هذه الصلوات، ودعونا من هذا فهو مشهور ومعروف ولن نناقش تناقضه الصريح، ولكن في سياق متصل به سنتساءل عن فكرة «المسلسل الرمضاني» فهو مسلسل تحشد له الأفكار المهمة الشيقة؛ سواء كانت كوميدية أو ذات أحداث تشد المشاهد ليولد ذلك حرصا على المتابعة بشوق وشغف يومي مستمر، وتمثل هذه المسلسلات لمشاهديه تسلية أيما تسلية.. ولقد تفكرت كثيرا في المنطق الذي يقف وراء اختصاص ليالي رمضان بهذا النوع من المسلسلات، فلماذا رمضان تحديدا! وقررت أن أحصر تفكيري في المنظور المادي البحت بعيدا عن أي تحيز ديني لعلي فعلا أقع على المبرر المنطقي لاختيار رمضان لهذه المسلسلات! وتوصلت بإعمال المنطق المباشر إلى أن الشخص الذي صام طوال النهار قد بات متعبا من الصيام وربما تسبب له أيضا في شيء من القلق والكآبة أو ما يمسى «ضيق الخلق» و»النرفزة» ومن ثم فإن المسلسل يأتيه بعد الإفطار ليقول أنا هنا لتسليتك وأخفف عنك عناء ما كابدته في النهار من صيام متعب ومرهق، هذا تبرير عقلاني مناسب وهو أول ما يخطر على البال (حتى إن ظهرت مبررات أخرى مثلا).. ولكنه في نفس الوقت تناقض مباشر مع مفاهيم رمضان والصيام وأهدافه التي بني عليها فهو شهر تدريب على قوة الصبر والتحمل مما يعني أن الصائم لم يعد بحاجة إلى تسلية في المساء لأنه الآن إما يتدرب (كصائم جديد) أو يفترض أن صيامه السنوات الماضية قد دربه على هذه العادة، فلم يعد الصيام قضية مزعجة بالنسبة له، وبالتالي، فهو ليس بحاجة إلى هذا النوع من التسلية للترويح عنه ونسيان هموم صومه!
لا أدري، ربما لدى أحدكم تبرير منطقي (غير متحيز دينيا) لهذا الاختيار لرمضان تحديدا لمسلسلات رمضان، ولابد أن أشير إلى أنه قد يقول قائل تمثل فترة الإفطار فترة ذهبية لعرض المسلسلات حيث يتواجد أغلب الناس في بيوتهم لتناول الإفطار وبالتالي التفرج على القنوات والمسلسلات وليس لديهم ما يفعلونه في هذه الفترة سوى التفرج على القنوات.. ولكن هذه الحجة لا أجدها مقنعة كثيرا وعن تجربة سابقة في متابعة بعض المسلسلات فإن المدة الفاصلة بين المغرب والعشاء وهي فترة الإفطار لا تكاد تكفي ليتناول الإنسان طعامه ويرتاح قليلا بعدها، والتي هي الفترة التي يسعى المسلسل أن تتم مشاهدته فيها، ولكنها فترة محدودة جدا إذ سرعان ما تدخل صلاة العشاء فيقوم الناس لصلاة التراويح، بل كم شاهدنا من الشباب من يفوت الصلاة في المسجد لأجل استكمال متابعة مسلسل ما.
وعلى العموم فإن هذه الحجة باتت ضعيفة جدا اليوم أمام ظهور فرصة مشاهدة المسلسل عبر الإنترنت بعدة طرق متنوعة.
** **
- مدير عام تعليم سابقا