أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
يعد التنظير في العلوم الطبيعية إجراءً تعميمياً استقراء - استدلاليً منطقي صارم تنبثق عنه منهجياً بنية معرفية تسمى «النظرية» التي تتألف من مفاهيم وتصورات تربط النتائج بالمقدمات والفرضيات المقبولة احصائيا بالوقائع المقيسة. وفي هذا الصدد، يؤكد هوكنج في كتابه «مختصر الزمن» أن ارتقاء التعميم إلى مستوى النظرية لن يكون ممكناً إلا إذا كانت النظرية المستنبطة عن التعميم قيد النظر صالحة معرفياً لوصف مجموعة كبيرة من المشاهدات بشكل دقيق وفق انموذج رياضي يحوي أقل عدد ممكن من الموجودات أو العناصر. وإضافة إلى ما أكده هوكنج آنفاً فإنني أزعم أنه من غير الممكن أيضاً أن يرتقي التعميم إلى مستوى البنية التنظيرية المشار إليها آنفاً إلا إذا كانت تلك البنية صالحة للتنبؤ الدقيق بالمسلكيات المستقبلية للظواهر أو الأحداث قيد البحث من ناحية وقادرة في الآن نفسه على حصر احتمالات ذلك التنبؤ رقمياً وتضييق نطاق المقبول من تلك الاحتمالات تنظيرياً، ورصد معدلات تكرار حالات حدوث وقائعها زمكانيا من ناحية أخرى. كما أزعم أنه من غير الممكن أن تتفوق النظرية بساطة وإيجازاً على الواقع المقيس الذي تمثله إلا بعد اكتمال بنيتها للإجراءات الاستقراء استدلالية الصارمة من ناحية واستحواذها على عدد لا نهائي من حالات تنقيح مناطها الرياضي المنطقي الاتجاه وتحقيقها في الوقت نفسه لأقصى فرص حديات اتفاقها مع الوقائع المرئية من ناحية أخرى. ولهذا بقدر ما تحققه النظرية من الاشتراطات المذكورة آنفاً وخاصة ما يتعلق منها بالاتفاق مع الوقائع المرئية تزداد، وفقاً لما أورده فيليب فرانك في كتابه «فلسفة العلم»، درجة الثقة في قدرتها على تفسير الظواهر والأحداث والتنبؤ بمسلكياتها المستقبلية. ويرفض كارل بوبر في كتابه «منطق الكشف العلمي» بشدة امكانية إثبات صدق البنى التنظيرية في العلوم الطبيعية اعتماداً على الحالات التي تتفق معها مشدداً في هذا الصدد على أن إثبات صدق تلك البنى لن يكون مقبولاً إلا عبر الحالات المضادة لها لا المتفقة معها. بل ويؤكد كارل بوبر في هذا الصدد أن حالة سلبية واحدة تكفي للبرهنة على فساد النظرية في الوقت الذي تعجز في رأيه حالات إيجابية عديدة عن إثبات صدقها الأمر الذي قد يجعل فرص تكذيب النظريات في العلوم الطبيعية عند بوبر أكبر من فرص إثبات صدقها. كذلك يزعم بوبر أيضاً أن أية مقولة معرفية لن تصبح نظرية إلا بعد ثبات فساد جميع الرضيات التي يحتويها مجالها عدا فرضية واحدة تتفق مع الحالات التي استندت إليها النظرية. ونتيجة للإجراءات المنهجية والاشتراطات المعرفية والمنطقية السابقة الذكر آنفاً، قد تتعرض النظرية في العلوم الطبيعية في اعتقادي لتحولات رياضية ولكن شريطة ألا تؤثر تلك التحولات من حيث المبدأ على البناء المنطقي لتلك النظرية أو على الطبيعة التركيبية للنظام المتعلق بها.
يهدف التنظير في العلوم الطبيعية الكشف عن النظام الذي يتحكم في الظواهر واستخلاص القواعد المؤثرة أو المفسرة لسلوكه إضافة إلى رصد العلاقات بين الأنماط وتحليل اتجاهاتها وحصر احتمالاتها، كما يهدف التنظير تفسير العلاقات التبادلية بين الظواهر واستنباط القوانين التي تحكم كل مجموعة مترابطة وتوحيد مسارات التفاعلات الأساسية التي تتحكم في طبيعة أنماط الموجودات وتوسيع نطاق ترابطها بحيث تنتهي تلك المسارات في نظرية شاملة ترجع الأشياء إلى تفاعل أساسي واحد يطلق عليه في الأطر المرجعية للعلوم الطبيعية المعاصرة بـ: «نظرية الحقل الموحد» أو ما أسميه بدلاً من ذلك بـ «نظرية الحقل الائتلافي المجال» هدف هذا المقال وغايته. ويذكر يحيى ابوالخير في كتابه الموسوم «نظرية المعرفة»، نقلاً عن بحث غير منشور حَبَّرَهٌ محجوب عبيد طه- رحمه الله- بعنوان «عقائد فلسفية خلف صياغة القوانين الطبيعية»، أن الدراسات التنظيرية في العلوم الطبيعية تثبت تقلص أعداد الموجودات التي تبنى عليها النظرية تبعاً لتقلص أعداد حالات التفاعلات الأساسية التي تتم بين موجوداتها الأمر الذي ينجم عنه تعاظم التماثل في أجزاء النظرية ذات العلاقة بالنظام قيد البحث. واستناداً إلى أنواع وأعداد الموجودات التي تتكون منها البنية المنطقية للنظرية والتفاعلات التي تتم بين عناصرها والتحولات الرياضية التي يتعرض لها نظامها تتحدد صيغتها النهائية. والحقيقة أن الوصول إلى نمط التفاعل الأساسي بين موجودات النظرية ذات الحقل الائتلافي المجال وفهم هذا النمط وتعليله يعد الغاية الأساسية التي من أجلها تستنبط النظرية وتصاغ وتُفَسَّرُ الوقائع قيد النظر. وعليه يعد هذا الحقل في العلوم الطبيعية نقطة الارتكاز المحورية التي تنطلق منها المساعي الحثيثة الحديثة الهادفة للعمل على توحيد شتات النظريات في العلوم الطبيعية وتعددها أو تشرذمها في هيئة واحدة هي «نظرية كل شيء» المُؤَطِّرَة لنظرية الحقل الائتلافي المجال. ولا شك أن رغبة المشتغلين بالعلوم الطبيعية في الوصول إلى هذه النظرية كانت ولا تزال حلماً يقض مضجع العلماء الذين سعوا إلى تحقيقه منذ شروق شمس البدايات الأولى للتنظير في هذه العلوم. وقد قطع علماء الطبيعة منذ تلك البدايات أشواطاً كبيرة نسبياً في هذا المضمار الشائك مفاهيمياً ومنهجياً وإجرائياً وحققوا فيه نجاحات باهرة تخطت محاولات التوحيد بين أهم نظريات الفيزياء إلى محاوات جادة أخرى للتوحيد أيضاً بين القوى الكونية الأربع التي لا يزال العمل جارياً لتوحيدها حتى لحظة كتابتي لهذا المقال. والأمثلة على النجاحات المتعلقة بتوحيد النظريات في العلوم الطبيعية جزلة ولا تخفى على أحد، فوحد العلماء مثلا خلال بواكير جهودهم في هذا المجال بين الكهرو استاتيكية والكهرو حركية المولدة للتيارات الكهربية، واستمرت تلك النجاحات بشكل حثيث الواحدة تلو الأخرى حيث تم التوحيد بين قوانين الجاذبية الأرضية وقوانين الفضاء السماوي المناظرة لها في المجال الجاذب هذا فضلاً عن التوحيد بين الكهرباء والمغناطيس الذي جسدته نظرية ماكسويل الكهرومغناطيسية عبر معادلاتها الأربع المعروفة بأناقتها الرياضية، ولا شك أن توحيد المجال الكهرومغناطيسي قد بلغ أَوجهُ في نظرية النسبية الخاصة التي نجح إنشتاين بواسطتها من تحرير المجال الكهرومغناطيسي من الأثير والتأثير اللحظي من بعد. ولا ينبغي أن ننسى في هذا الصدد أيضاً توحيد إنشتاين بين الطاقة والكتلة وبين المكان والزمان هندسياً ورياضياً كمجال مادي أطلق عليه إنشتاين مصطلح «الزمكان « الذي لم يغفل من توحيده أيضا في ذات الآن بالمادة نفسها مثبتاً إنشتاين قابلية تفاعل هذا المجال الزمكاني مع غيره من المجالات المادية المناظرة ونظم الطاقة الكونية المختلفة. ومن المهم الإشارة في هذا الصدد إلى الجهود المعاصرة في مجال التوحيد بين النظريات التي ربما تمثلها في الوقت الراهن نظرية الكوانتم التي تم من خلالها رصد عدد كبير من الجسيمات ما تحت الذرية وتوحيدها في إطار تنظيري ما تحت ذري ائتلافي المجال اعتماداً على جسيمات أولية مسبقة التكوين ذرياً كالكوارك على سبيل المثال لا الحصر.
ومع تطور تقنيات النظر والمشاهدة والتجريب وإعمال العقل حدث ما لم يكن في الحسبان فلم تعد الذرة وفق ما حَبَّرَهُ براين جرين في كتابه «الكون الأنيق» تمثل، كما تصورها العلماء، أصغر وحدة في المادة بل اصبحت بواطنها تحوي جسيمات نووية ما تحت ذرية متناهية الدقة كالميزون والنيوترينو والميون والتاو والإلكترون نيوترينو والميون نيوترينو والتاو نيوترينو وكواركات القاع وكواركات القمة والكواركات الغريبة والكواركات الفاتنة والجسيمات المضادة المرافقة للجسيمات الآنفة الذكر كالبيزوترون. كما أدت هذه التطورات إلى اكتشاف مجموعة القوى النووية العالية التي يرافقها جسيم يسمى الغليون، ومجموعة القوى النووية الضعيفة التي يصاحبها البوزون. ويضيف براين في كتابه المشار إليه أعلاه إلى هاتين القوتين الآنفتين الذكر قوة ثالثة هي القوى الكهرومغناطيسية بجسيمها المسمى الفوتون، وقوة رابعة هي قوي الجاذبية بجسيمها المسمى الجرافيتون. ولم يكتف العلماء بالتصنيفات السابقة الذكر للجسيمات النووية ما تحت الذرية والقوى الكونية الأربع بل أضافوا إليها، كما أشار إلى ذلك برايان جرين، تصنيفاً آخرا يضع الجسيمات النووية ما تحت الذرية في أنساق تتألف من ثلاث عوائل لكل عائلة منها كواركان اثنان وإلكترون أو أحد أقاربه من الميونات والتاو وواحدة من مجموعة النيوترينو.
لا شك أن العلوم الطبيعية قد حسمت أمرها نهائيا بشأن مبدأ توحيد النظريات فاتخذت لتحقيق ذلك مساراً منهجياً قويماً واجرائياً برجماتياً فريداً غير مسبوق يُمَكِّنُ الباحثين في التنظير عبر هذا المسار من اشتقاق نظريات قد تصبح فيما بعد سبباً في نشوء مجموعة أخرى من النظريات التي قد تضحى هي الأخرى سبباً في نشوء نظرية أو مجموعة من النظريات أعم وأشمل وهكذا دواليك إلى أن تشتق في نهاية المطاف نظرية النظريات أو ما يعرف بالنظرية العامة الشاملة أو نظرية الحقل الائتلافي المجال المفسرة لكل شيء. وعند الوصول إلى هذه المرحلة من توحيد النظريات في العلوم الطبيعية تفقد كل نظرية خصوصيتها لتصبح كل واحدة من تلك النظريات ليست حالة تنظيرية خاصة بل حالة حدية في النظرية العامة الشاملة التي يفرزها الحقل الائتلافي المجال. ومع كل هذا التطور التنظيري غير المسبوق يدرك المشتغلون بالعلوم الطبيعية أنه ليس من الممكن تحقيق ذلك الربط لكل النظريات أو أن تتحقق النقلة من عموميات النظرية إلى نظريات أكثر عمومية وشمولاً. ولكن مع كل تلك القيود يعتقد علماء الطبيعة أنه من الممكن أن تقبل كل نظرية علمية من حيث المبدأ مثل ذلك الربط الذي قد يؤدي في نهاية المطاف الى بلورة الهيئة المستقبلية الائتلافية لشكل النظرية المقبولة الموحدة لكل النظريات في العلوم الطبيعية. واستناداً إذن لما سبق ذكره آنفاً تتأرجح النظريات في العلوم الطبيعية بين مبدأ الكم الذي يشمل عدداً ضخماً من النظريات ومبدأ النسبية الخاصة الذي يحتوي عدداً من النظريات أقل بكثير من نظريات مبدأ الكم. ونتيجة لتطور العلوم الطبيعية أخذت أعداد النظريات في التقلص حديثاً بشكل واضح وخاصة بعد ظهور مبدأ التطبيع ومبدأ اللاتغير القياسي الذي تَبَنَّى نظرية الأكوان الكمية ومبدأ التماثل الفائق ونظرية الأوتار الدقيقة التي من المحتمل أن تمثل إحدى الحلول التنظيرية المقبولة لنظرية الحقل الائتلافي المجال في هذه العلوم.وبالطبع لم تقف الجهود عند الحدود التي ذُكِرت آنفاً بل استمرت المحاولات الجادة لدمج نظرية الكوانتم بقوانينها ونظرياتها المتنوعة مع نظريتي النسبية الخاصة والعامة بمختلف مبادئهما للوصول إلى النظرية الفيزيائية الشاملة ذات الحقل الائتلافي المجال. وقد قطع الفيزيائيون شوطاً هائلاً في هذا الاتجاه إلا أن عدم تمكن المنظرين من ربط قوى الجاذبية بالقوى النووية العالية والقوى النووية اضعيفة والقوى الكهرومغناطيسية المشار إليها آنفاً قد حال دون الوصول في الوقت الراهن إلى هذه النظرية ذات الحقل الائتلافي المجال المفسرة لكل شيء.
أخيراً أود التأكيد أن حل شتات النظريات في العلوم الطبيعية عبر نظرية الحقل الائتلافي المجال ربما سيقود في قابل السنوات إلى نظرية رياضية شاملة عامة أنيقة التركيب تقل فيها الموجودات والتفاعلات الأساسية وتكبر مجموعة التماثل. كما ستسود تبعاً لذلك القوانين ذات الصيغ الرياضية التي تصف مجموعة من الحقائق المحصلة من التجارب المتشابهة التي ستندرج برمتها في اعتقادي تحت مظلة البُنى الرياضية لنظرية الحقل الائتلافي المجال. ونتيجة لعدد لانهائي من المحاولات والفرضيات قد تتجرد النظرية العامة الشاملة المشار اليها آنفاً من أثر الزمان والمكان وتكتسب صفتي العالمية والعمومية اللتين تؤديان في نهاية المطاف إلى اشتقاق قانون عالمي عام واحد ينهي إشكالية الشتات التنظيري في العلوم الطبيعية ويرسخ الآفاق المستقبلية الرحبة لنظرية الحقل الائتلافي المجال.