د.شريف بن محمد الأتربي
الذكاء الاصطناعي -ترند الحقبة الحالية- ليس وليداً جديداً للتقنية، فقد سيطرت على الفلاسفة فكرة الرجال الميكانيكيين الذين يمكن إيجادهم بطريقة ما، وهي الفكرة التي تطورت بشكل متزايد خلال القرن الثامن عشر وما بعده، عندما فكر الفلاسفة في إمكانية استخدام آلات ذكية غير بشرية في ميكنة التفكير البشري والتلاعب به، وهو ما أدى في النهاية إلى اختراع الحاسوب الرقمي القابل للبرمجة.
تُعد المرحلة من 1900-1950م هي بداية الظهور الحقيقي لمصطلح الذكاء الاصطناعي، إذ تناولت مسرحيات وأفلام الخيال العلمي معنى الروبوت بمعناه المعروف، وهم الأشخاص الاصطناعيون الذين يقومون بأفعال البشر في العالم الحقيقي، ففي عام 1929م في اليابان، ظهر أول روبوت تم بناؤه على يد عالم الأحياء الياباني «ماكوتو نيشيمورا»، وكان هذا الروبوت يستطيع تحريك رأسه ويديه، مع تغيير تعبيرات وجهه.
يُعد «آلان ماثيسون تورينج» عالم المنطق البريطاني ورائد الحاسوب، هو الأب الروحي للذكاء الاصطناعي، وإليه يعود الفضل في اكتشاف هذه التقنية، ففي عام 1935م، قام «تورينج» بوصف آلة حوسبة مجردة، مكونة من ذاكرة غير محدودة يتحرك فيها ماسح ضوئي يقرأ الرموز ويكتب المزيد منها، وتتضمن هذه الذاكرة أيضًا برنامج تعليمات يقوم بإملاء تصرفات الماسح الضوئي، وقد سُميت هذه الآلة باسم آلة «تورينج» العالمية، والتي تستند إليها جميع أجهزة الحاسوب الحديثة في أعمالها. وفي عام 1945م، توقع «تورينج» أن تلعب أجهزة الحاسوب يومًا ما لعبة شطرنج بشكل جيد، وهو ما قد تحقق بالفعل في عام 1997م، عندما هزم حاسوب شطرنج بطل العالم غاري كاسباروف.
في عام 1947م ألقى «تورينج» محاضرة في لندن عبَّر من خلالها عن رغبته في ابتكار آلة يمكنها التعلّم من التجربة، مع توفير آلية تسمح لها بتغيير تعليماتها. وفي عام 1950م قدم اختباره المعروف باسمه «تورينج»، وهو اختبار عملي لذكاء الحاسوب، والذي يتضمن جهاز حاسوب، ومحققاً بشرياً، ورقائق بشرية، وكان الهدف منه هو إثبات أن الحاسوب كيان ذكي ومفكر.
استمرت رحلة الذكاء الاصطناعي في التطور منذ ذلك التاريخ وحتى الآن، وأصبحت هذه التقنية جزءاً لا يتجزأ من حياتنا اليومية سواء في الأحاديث، أو التطبيق العملي لكافة القطاعات والجهات التي نتردد عليها أو نتعامل معها، فخلال الأربعة الأعوام المنصرمة تطور الذكاء الاصطناعي تطوراً رهيباً، ففي عام 2020م نجحت جامعة «أكسفورد» في تطوير اختبار الذكاء الاصطناعي Curial، والذي استُخدم في تحديد COVID-19 سريعًا.
وفي عام 2021، تم تطوير نظام الذكاء الاصطناعي متعدد الوسائط Dall-E، من قِبل OpenAI، إذ يستطيع هذا النظام استخدام مطالبات النص في إنشاء الصور. وفي عام 2022، أنتجت جامعة كاليفورنيا روبوتاً يُدعى سان دييغو، والذي يمتلك أربع أرجل ولديه القدرة على العمل على الهواء المضغوط. وشهد عام 2023 إصدار OpenAI روبوت الدردشة الشهير ChatGPT، والذي يمتلك القدرة على إجراء محادثات مع البشر والإجابة على الأسئلة.
خلال فترة وجيزة من ظهور الحاسب الآلي، وشبكة الإنترنت، والذكاء الاصطناعي، استطاعت أغلب المنظمات والجهات من تقنين أوضاعها، ودمج هذه التقنيات في أعمالها لتلبية احتياجاتها سواء اليومية أو السنوية، وتثبيت منجزاتها، بما يحقق أهدافها الحالية والمستقبلية، ومن هذه الهيئات تأتي المكتبات، لتطل باستحياء على ما يجري في الميدان، فهناك تهديد واضح لمكاناتها، وخبراتها، ومحتوياتها، من هذا التقدم الرهيب العجيب، الذي جرى بسرعة أسرع من الصاروخ، بل إنه سابق الريح العاتية في إحداث تغيّرات مدوّية في كل جوانب الحياة ومن غفل عنه فإنه تاه وضل سبيله وفقد مبتغاه، فشمر المكتبيون سواعدهم، ونقبوا في مخزون أفكارهم، ووضعوا لهؤلاء الأعداء التقنيين ميثاقاً لخرطهم في صفوف الخدمات والمستخدمين وعدم معاداتهم حتى لا يكونوا من الخاسرين.
لقد لعب أمناء المكتبات دوراً مهماً - ولا يزالون - في إثراء الحياة الثقافية وتشكيل هوية المجتمع؛ ويعد هذا الدور من أهم الأدوار التي قدَّمها الأفراد للمجتمعات على مدار آلاف السنين؛ ففي العصور القديمة كان الكتبة هم المسؤولين عن جمع وصيانة النصوص، وعُرفوا بمهاراتهم في النسخ والتدوين. وفي الحضارة الإغريقية في الفترة الكلاسيكية، أنشئت المكتبات العامة، مثل مكتبة الإسكندرية، وكانت تُديرها شخصيات بارزة من العلماء والفلاسفة. كما برز دور الأديرة في العصور الوسطى، حيث كانت هي المؤسسات الرئيسية التي تحتفظ بالمكتبات وكان الرهبان هم الأمناء الذين يقومون بتدوين ونقل المعرفة من خلال النسخ اليدوي للكتب. ثم نشأت المكتبات الجامعية مع بداية ظهور الجامعات في أوروبا، حيث عمل أمناؤها على تنظيم وحفظ الكتب الأكاديمية، وتقديم الخدمات المعلوماتية الداعمة للتعليم الجامعي ومصفوفة البحث العلمي.
رغم التطور السريع في التقنيات، وظهور الملهيات مثل التلفاز، وانصراف المجتمع عن القراءة، وظهور الإنترنت والاكتفاء بالمحتوى الإلكتروني، وأخيراً ظهور الذكاء الاصطناعي، وعدم حاجة المستخدمين لمصادر المعلومات، والاكتفاء بما يقوم به من تأليف وكتابة، وغيرها من الأعمال التي كانت قديماً تجبر المستخدمين على اللجوء للمكتبات بكافة أنواعها؛ ورغم هذه التحديات إلا أن أمناء المكتبات ظلوا على قسمهم الذي أقسموا به فاستمروا في أداء أعمالهم المجتمعية بكل حب وأريحية. ارتفعت وتيرة التهديدات من خطر التقنيات وتهديدها لما بقي من عرش المكتبات، فكان لا بد أن يجد مسؤولو المكتبات وأمناؤها حلاً لهذه التهديدات، من خلال استقطاب العدو وتحييده؛ بل وتحويله من تهديد إلى تفعيل، فوضعوا حزمة من المقترحات التي يمكن أن تساعد على دمج أو خرط الذكاء الاصطناعي والتقنيات داخل منظومة المكتبات ومراكز المعلومات.
كانت البداية مع الأعمال الروتينية، من التصنيف والترتيب، فاستخدم الذكاء الاصطناعي في تصنيف المحتوى، حيث أنتج خوارزميات لتصنيف الكتب والمقالات، مما سهل على الأمناء العثور على المعلومات بسرعة ودقة. كما استخدم أيضاً في تحليل استخدام المستفيدين للمكتبة لتحديد الأنماط في البحث عن المعلومات.
لقد سهلت محركات البحث الذكية الوصول إلى المعلومات، من خلال تطوير أنظمة بحث تعتمد على الذكاء الاصطناعي مما يسهل على المستخدمين العثور على المحتوى المطلوب بسرعة، ناهيك عن الدردشة الآلية (Chatbots) والتي توفر دعم فوري للمستفيدين والإجابة على استفساراتهم وتوجيههم نحو الموارد المناسبة.
يعد تحليل البيانات من أهم المميزات التي توفرها التقنيات، حيث تم استخدامها في المكتبات ومراكز المعلومات لتوقع احتياجات المستفيدين، مما يساعد الأمناء في تحسين مجموعة المكتبة. ومن خلال تقارير تحليل الاستخدام، توفرت تقارير دورية حول استخدام الموارد، مما ساعد الأمناء في اتخاذ قرارات مستندة إلى البيانات.
يتجه العالم أجمع إلى دراسة تجربة المستخدم والاستفادة مما توفره من بيانات، ومعلومات، واتجاهاته نحو المنتج أو المؤسسة وذلك لتحسين تجربة المستخدم من خلال تخصيص المحتوى، وتقديم توصيات متخصصة للمستخدمين بناءً على اهتماماتهم وسلوكياتهم السابقة. كما تم استخدام تقنيات الواقع المعزّز والواقع الافتراضي لتوفير تجربة تعليمية تفاعلية للمستخدمين.
لقد جاءت التقنيات الحديثة لترفع عن كاهل أمين المكتبة عبء الكثير من العمليات الروتينية اليومية التي تضيع الكثير من الوقت، فكان اللجوء إلى الأتمتة حلاً يرضي جميع الأطراف، ويساعد المستخدمين والزوار، ومن ضمن هذه الروتينيات إدارة العمليات المكتبية، مثل عمليات الإعارة والإرجاع، وإدارة المخزون، حيث استخدمت تقنيات الذكاء الاصطناعي في مراقبة المخزون وإدارة الموارد بكفاءة، مما يوفر الوقت والجهد لأمناء المكتبات.
لقد كانت عمليات البحث عن المقالات العلمية، والمعلومات ذات الأهمية في العمليات البحثية مرهقة وثقيلة وتستغرق أوقاتاً طويلة، فجاء فارس التقنيات، الملّقب بالذكاء الاصطناعي، ليقود قافلة البحث عن المعلومات المتقدمة في الأدبيات الأكاديمية والمقالات العلمية ذات الصلة الجوهرية، والفائدة البحثية.
كان للتدريب والتطوير نصيب وافر من عمليات التغيير، فأصبحت الدورات التدريبية والمعلومات التطويرية سهلة وميسرة ولأمناء المكتبات متيسرة، حيث استخدام الذكاء الاصطناعي لتطوير محتوى تدريبي مخصص لأمناء المكتبات، مما عزّز مهاراتهم في استخدام التكنولوجيا الحديثة لخدمة المستفيدين، وتسهيل الوصول لمئات الملايين من العناوين البحثية والمقالات العلمية التي تدعم التخصص، وترفع مستوى الأداء في ظل التنافس غير العادل بين البشر والتقنيات.