أ.د.صالح معيض الغامدي
قرأت الجزء الأول من رواية «خوف» لأسامة المسلم لسببين: أولهما الجدل واللغط الذي أثير كثيرا حول أعماله الروائية ، والثاني المقدمة السيرذاتية للكاتب التي لفتت انتباهي وشدتني لمواصلة قراءة الكتاب. والحقيقة أني وجدت هذا العمل جذابا وممتعا ويعالج موضوعا مهما وهو الخوف الإنساني بوصفه داء ودواء في الوقت ذاته. ولكني لن أركز في هذه القراءة على تبيان الأبعاد الروائية الفانتازية الجذابة في هذا العمل وهي كثيرة ومتنوعة، ولا على نقدها أيضا، فهذا ليس مجال اهتمامي في هذا المقال، وإنما سأركز على الأبعاد السيرذاتية التي وردت في هذا العمل كما تظهر في المقدمة والفصل الأول « اليوم الذي أكتشفت فيه القراءة»، والثاني « اليوم الذي غير حياتي» ، والثالث « الليلة المشؤومة» ، وفي الخاتمة ، وربما في بعص الفصول الأخرى.
فعلى الرغم من أن التصنيف الأحناسي الذي وضع على غلاف هذا العمل هو « رواية» إلا أن هذا التصنيف لا يبدو قويا بقدر كاف، وسبب ضعفه هو الحضور السيرذاتي للمؤلف في مقدمة هذا العمل وفصوله الأولى وخاتمته، وربما في بعض الفصول الأخرى. فقد أبدى الكاتب تردده في تصنيف عمله هذا منذ أول جملتين في المقدمة، حيث قال « هذه الرواية أو السيرة الذاتية، أو كما سنتفق لاحقا على تصنيفها…»(ص11)
ثم بعد أسطر قليلة من هذا التردد الأجناسي يبدأ بسرد حياته، فيذكر مكان مولده وتاريخه وملابساته» ولدت في المملكة العربية السعودية في منتصف السبعينيات بعد زواج أمي وأبي بسبع سنوات، كنت مصدر فرح وبهجة لهما ولجميع العائلة ، وكما أخبرتني أمي أنني ولدت مبتسما ولم أبك عند ولادتي» (ص11) ويواصل الكاتب سرد جوانب عديدة من تجاربه الحياتية المنتقاة حتى كتابة هذا العمل.
ولكن الكاتب يعود إلى التعبير عن هذا التردد التجنيسي في تصنيف عمله مرة أخرى في نهاية الفصل الأول، حيث يقول :» ما سأذكره في الصفحات التالية من أحداث وقصص وروايات لن أطلب من أحد تصديقها ولن أدعي أنها حقيقة حفاظا على نفسي من سوط النقد الجاهل، وكذلك لن أقول إنها رواية من خيالي كي لا أظلم جزءا مهما من حياتي غيّرها إلى الأبد لكن سأكتفي بالقول إنها مجرد … إسرائيليات»( 23).
ولكن، حتى مصطلح «الإسرائيليات» الذي يقترحه الكاتب لتلقي عمله لا يحل هذه المشكلة التجنيسية ولا يزيل اللبس والغموض في الكيفية التي ينبغي أن يتلقى بها هذا العمل ، فهو هنا يبدو أكثر ترددا من ذي قبل في تصنيف عمله، ولذلك فهو يقترح أن يصنف عمله أو أن يقرأ بوصفه ضربا من ضروب الإسرائيليات، والإسرائيليات كما هو معروف في تراثنا العربي الإسلامي هي الحكايات والقصص والأخبار المنقولة عن بني إسرائيل التي تتلقى دون أن تقبل أو ترفض، فلا تصدق ولا تكذب، استنادا إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم … «. والإسرائيليات تتضمن فعلا عقدين قرائيين متناقضين على الأقل، وهما العقد الحقيقي والعقد الروائي، أو العقد التوثيقي والعقد التخييلي، وللقراء بعد ذلك أن يختاروا أي العقدين الذي يرونه مناسبا ليقرأوا العمل في ضوئه أو من خلاله. وأعتقد أن هذه الفصول الأولى والخاتمة لا شك في أنها تبرز العقد التوثيقي السيرذاتي بكل بوضوح ، فكل ما يسرد في هذه الأجزاء مرتبط بالأحداث الحقيقية التي عاشها الكاتب ومواقفه الشخصية من كثير من القضايا المجتمعية والإنسانية التي يعبر عنها في هذه الأجزاء.
أما بقية فصول الرواية أو فصول الكتاب فهي في الواقع ذات طابع تخييلي بامتياز في أغلبها، بل إنها مجنحة في توظيف الخيال في أحداثها بما يعقل منه وما لا يعقل، ولذلك نجد أن العقد القرائي التخييلي هو العقد المناسب لقراءة هذه الأجزاء في ضوئه، أما كيف نربط بين هذين العقدين في عمل واحد، فهذا أمر ربما يحتاج إلى قراءة يبدو أنها ستكون أيضا غير عادية قليلا فيما أحسب، فهذه الفصول الروائية المتخيلة التي ترتبط بهذه الأحداث الفانتازية في العالم الآخر، العالم الغرائبي وإرتباط المؤلف أو شخصية البطل به، فيمكن أن نفسر كل ذلك باقتراح مفاده أن هذه الأحداث هي بمثابة استعارة تخيلية لسيرة ذاتية افتراضية أو لسيرة ذاتية مبتغاة أو متمناة للكاتب أراد أن يعيشها جنبا إلى جنب مع تجاربه الحياتية الحقيقية، أو بمعنى آخر هي بمثابة « تخييل ذاتي»، وبذلك يمكن أن نجمع بين هذين العقدين القرائيين في هذا العمل، وربما يكون من شأن هذه القراءة التجنيسية لرواية أو كتاب « خوف» أن تكون أكثر إقناع من بعض القراءات الأخرى التي تتعامل مع هذا العمل الأدبي بوصفه عملا فانتازيا لا صلة له بالواقع، وتكون ثيمة العمل الرئيسة هي في اعتقادنا ثيمة الخوف الإنساني بوصفها داء يصيب الإنسان وداوء له في الوقت نفسه، كما أشرت إلى ذلك من قبل . وربما احتاجت هذه الثيمة إلى مزيد من التبيان الذي لا يتسع له هذا المقال القصير، فضلا عن أن هذا الموضوع لم يكن في ذاته محط اهتمامي في هذه القراءة كما ذكرت.