أ.د.أحمد عبدالحميد إسماعيل عليان
دائمًا يبدع النقاد في تقدير تقنيات العمل الأدبي واختلافها وافتراضها وترسيمها، منشئها وأبعادها ومساراتها ومنهجية ضوابطها؛ ولكل عمل أدبي أدواته المتوالدة فيه، سعياً إلى إحاطة آليات التعبير ومسارب التأمل ومجالات الفكر في النص الأدبي؛ لإعادة تقديم هذا الأدب نقدًا إبداعيًا موازيًا، وقد تتعدد هذه التقنيات اللغوية والمكانية والزمانية ويعيد الناقد اكتشافها وتقديمها، عناصرَ أساسية يراها لُحمة العمل الأدبي وسَداه، ولأن السيرة الذاتية قوامُها الإنسان وحضورُه فإن المتلقي في حالة توقع مستمر وتفاعل دائم مع كيفية استدعائه وصور حضوره، إلا أن الدكتور محمود الربيعي -بارك الله عمره ونفع بعلمه وسيرته وإنسانيته- المصري المولد والنشأة (1932م) صاحب هذه السيرة الفارقة في أدب السيرة، يستدعي في سيرته الجديدة «بعد التسعين» الإنسانَ وعالَمه تقنيةً سرديةً، يكتنفُها الجميل ويحفّها الجمال، وَمْضَةً سِيرِيّةً تثير هالات الأحاسيس، وعمق الفَراسة، ورسيس المشاعر، وروح التجربة الإنسانية، في خبرة الهادئ المتأمل، إن هذا الاستدعاء في هذه السيرة صورةٌ من صور سلامة «الأنا»، ومحبة تواصلها بالوجود الإنساني المادي، واتصالها بعالم الروح الإنسانية.
ولأن الإنسان في هذه السيرة تكنيك شديد الفرادة، قد يشكل به الكاتب سيرته كما يشكل الرسام لوحته اللونية، فقد يكون هذا الإنسان تقنية أسلوبية ينتظم على إيقاع حضوره نظام التركيب اللغوي، أو علامة سيميائية دالة برسمها البشري، أو حدثاً في تصور الواقعية، أو حالة في المذهب النفسي، أو معنى قِيمِيٍّ من معاني التداولية البراجماتية، لعل الكاتب القدير يحاول إعادة هذا الإنسان إلى صورته الإنسانية الخالدة فريدة الاختلاف بعيداً عن صنعه الأحداث الجارفة التي أهالت عليه ركام ضآلته، وأظهرت أسوأ صفاته، تتأرجح به الريح في خضم ضعفه، وفضاء شتاته. إن إنسان الدكتور الربيعي في هذه السيرة كُلٌّ فيها وليس مجرد شخصية في حكاية؛ إنه وعيٌ داخل الوعي، بطلٌ بكل معاني البطولة داخل البطل السارد، روحٌ داخل روحه تستصفي إعادة تشكيل ملامحه، وطنٌ زمانيٌ يأنس إليه دائمًا، ويأتنس بملكوته ويشاركنا أُنسَه برفيف الكتابة، فالكتابة -كما يرى إدوارد سعيد- هي المقاوَمة الأخيرة ضد الممارسات والمظالم غير الإنسانية التي تشوه التاريخ الإنساني.
قد تأتي أهمية هذه السيرة من كونها -بالإضافة إلى زخمها الإنساني المتفرد، أو تجرُّد إنسانها في معانٍ حميمة أو منتَقَدة، أو رؤية الكاتب هذا الزخم من شرفته المطلّة بالحنين والإجلال غالبًا، واللوم حينًا، والإشفاق أحيانًا-، أنها -قد تكون- السيرة الثانية عربيًا في مضمار كتابة السيرة «بعد التسعين»(2)، بعد كتاب الأديب القانوني السعودي الدكتور عبد العزيز العلي النُّعَيم «حكايتي بعد التسعين»(3)، وعالميًّا سيرة الكاتب الأرجنتيني «إرنستو ساباتو: مذكرات الشيخوخة»(4).
ثَمّةَ فارقٌ أساسي بنى عليه الدكتور الربيعي سيرته، فارق يتصل برسم شخصيته استحال عقيدةً تتأصل في إحساسه بنفسه، ورؤيته الدقيقة غاية الدقة لذاته صاحبة جلال السيرة؛ حيث يرى كيانه الذي يسطّر سيرته «شابًّا في التسعين...أصدق قارئي الكلام، ولا يربطني به سوى حسن الظن، ومتعة الإفضاء، ولا أطمع إلا في رضاه عن أسلوبي الكتابي، ومساعدتي في بناء جسور ثقة بيني وبينه، أساسها الندية والتفاؤل، والبحث عن اليقين في أن حياتنا المليئة بالأشواك تستحق أن نعيشها، وأن نستعين على هجيرها بظلال من رصيدنا الروحي، وبهجة قلوبنا المتجددة، وولعنا بالمعرفة الحقة، واحترام العقل، ونبذ الخرافة والمطامع»(5)، فنحن أمام سيرة كاتب يتحلّى بعنفوان الرجاء وأصائل الرضا، وحثيث البداية، ورهيف الثقة في تلقّي الإنسان وقادم الإنسانية الأفضل، في حين جاءت سيرة الدكتور عبدالعزيز علي النُّعَيْم السُّعودي -بارك الله عمره- المولد والنشأة (1926م) -وقد دوّنها في الرابعة والتسعين- على أفق التوقع المعتاد، يقول في الصفحة الأولى: «ما الذي سيتذكره شخص مُسِنٌ اعتاد أن يجيب أصحابه وأفراد أسرته بكلمة «ما أذكر؟»، لكنني وفي أحيان ليست بالقليلة تثور في عقلي الذكريات، وتنهمر الصور والكلمات وعبق الحارة القديمة وبيوت الطين ومشاعر الترحال بين الرياض والقاهرة»(6)، فمؤكّدٌ تباين هذا المنطق و«...شابًّا في التسعين»، كلاهما أفاض أشجان السيرة بعد التسعين، ولكن أحدهما شاب وأحدهما مُسِنّ، ولا بد تختلف رؤية كليهما لذاته والحياة وماضيه والإنسان والإنسانية.
أما إرنستو ساباتو (1911-2011م) فإنه غارق في ذكريات شيخوخته، مستغرق في مرصد شيخوخة ذاكرته الذي يرى منه ماضِيَه وحاضِرَه ونفسه، يقول في مقدمة سيرته «تمهيد أو تبرير»: «أظن أنني قد أوجزت شيئًا من شعور يعتري رجلًا يقف بقدميه على شفا حفرة من الموت، وها أنا ذا أقدم اعتذاري للقُرّاء؛ إذا لم يجدوها أكثر من كونها خطوطًا عريضة -إسكتشات- أو بالكاد مُسَوّدات»(7).
ثم إن الكاتب الدكتور الربيعي يُشكّل من ذاته صورةً في ضمير أسطوري؛ ليخلد هذه الذات الخالدة في ديمومة الإنسانية، هذه الصورة تقنية مبدئية قابلة للحضور المتجدد، تسمح له أن يتماهى في شخصياته الراحلة ليرتفع بها راقيًا معارج الذكرى الخالدة لسيرة الإنسان، وأن تتضافر في سيرته سِيَرٌ ذاتية وغَيريّة تُحِيلُ إلى سِيَر، يقول الدكتور محمود الربيعي: «وأسمح لنفسي بتشبيهها بطائر الفينيق، الذي يخرج من رماد حريقه في كل مرة، متجددا، مضيئًا»(8)؛ ووفق هذا التحليق الإنساني وخلوده يبدع سيرتين ذاتيتين: «سيرة ذاتية: في الخمسين عرفت طريقي» 1991م، ثم «بعد الخمسين: سيرة ذاتية» 2004م، ويجدد الإبداع بسيرتين غيريَّتين في شقيقه وصديقه: «أخي محمد الربيعي» 2011م، ثم «في صحبة السعيد بدوي»(9) 2016م؛ فالإنسان هو مدوّنة هذه السيرة، وقودها ونارها، وماؤها ونسيمها وبلسمها العليل، يقول: «لقد احترقت مرة في «في الخمسين»، وثانية في «بعد الخمسين»، وثالثة في «أخي محمد الربيعي»، ورابعة «في صحبة السعيد بدوي»، وها أنا ذا أخرج من رمادي «شابًّا» في التسعين من عمري، أراجع أيامي، وأكتب كتابًا خامسًا عن «مباهج» -أو تراها «آلام»؟!- التسعين»(10).
«شابّا في التسعين»! أيُّ عُمرٍ بهيٍّ متجددٍ يَهَبُه الكاتب لقارئيه!
إن الإنسان وحضوره في «بعد التسعين: سيرة ذاتية»، لا بد أن يكون راويها وساردُها بضمير المتكلم إنسانَها الأول، وكما يرى فيليب ليجون: «يجب أن يكون هناك تطابق بين المؤلف والسارد والشخصية»(11)، ومن ثم هو تقنية السيرة النفسية الأولى، وهذا الضمير أقرب تقنيات السيرة تأثيرا وحضورًا، يتعدد حضوره بعدد ومضاته المئة والسبع والعشرين ومضة (127)، هي عدد عنوانات هذه السيرة غير المؤرَّخة؛ حتى تتسع دائرة التأويل والتخمين والافتراض والتقدير والمدى الزمني، وإذا أضفنا ومضة الإهداء إلى صديق، فقد زادت الومضات الإنسانية ومضة فاعلة بتصدرها الصفحة الأولى: «إلى الحكيم النبيل، ابن مصر البارّ: الأستاذ الدكتور عبد الجليل مصطفى، صديق لا تبلى مودته»(12)، ويروق لي -كاتب هذه السطور- أن أضم اسمي إلى هذه السيرة الوضيئة بشرف إهداء كاتبنا أستاذنا القدير الدكتور محمود الربيعي بخطه الجميل نسخة إليّ: «إلى ابن عزيز صديق: د. أحمد إسماعيل، تحية مودة. محمود الربيعي 5/11/2024م»، كما أتشرف أن يتفضّل بذكر اسمي ضمن كوكبة حضور حفل استقباله عضوًا عام 2008م في مجمع اللغة العربية بالقاهرة (13)، إلى جوار أسماء الأسرة الكريمة، واسم أستاذي القدير الدكتور أحمد درويش: «... ومن تلاميذي أحمد درويش، وأحمد إسماعيل، وهناء الشريف، ورشا صالح...».
وبدايةً تضيء الومضات السيرية صورة الإنسان والإنسانية؛ وتزيد إيقاعات الزخم الإنساني في كل هذه الومضات، ومع كل اسم ينفتح عالم من الذكريات يحيل الومضات إلى تيار وعي يُمَثل في قلم الكاتب معادلاً روحيًّا ونفسيًّا وموضوعياً لا بد من البوح به، فالكتابة سِرٌّ من أسرار البوح، وعلامة توقيع الكاتب على ذاكرة الحياة في المكان والزمان، واستضاءة بوصل الحياة والموت، فالراحلون هم الذين يضيئون ذاكرة الحياة، إن «كتابة السيرة الذاتية هي فن الذاكرة الأول؛ لأنها الفن الذي تجتلي فيه الأنا حياتها صراحة، وعلى نحو مباشر، مسترجعةً هذه الحياة في امتدادها الدّالّ، أو في وقت بعينه من أوقات هذا الامتداد له مغزاه الخاص، وذلك من منظور لحظة حاسمة من لحظات التحول الحَدِّي في عمر هذه الأنا»(14).
ولا شك أن الدكتور محمود الربيعي وهو يخط هذه السيرة ينظر بوجدانه وثقافته متعددة المشارب إلى سِيَر كثيرة مؤثرة، لأحمد لطفي السيد وطه حسين والعقاد ونُعَيمة وأحمد أمين وغيرهم، ولا شك أن التأثر الفني الأوقع في نفسه كان بسيرة أديب نوبل كاتبنا العظيم نجيب محفوظ (1911-2006م) في مجموعته السيرية القصصية «أصداء السيرة الذاتية»(1994م)، التي نُشرت وهو في الثالثة والثمانين، وآثر فيها أديب نوبل ألّا يتخلى عن فطرته الحكّاءة في سردها، فاختيار عنوانات الومضات القصصية عندهما ينبع من تقطير المعنى وانتقاء الدلالة، إلا أن الدكتور الربيعي ينطلق في معانيه ودلالاته من شفافية معايشته الإنسان الحقيقي في واقعه وباسمه الحقيقي غالبا، بينما يسبح أديب نوبل في الإنسانية المجردة المفعمة بالحياة والشوق إلى العوالم الخيالية المثال والحكمة والتكثيف والرمزية غالباً، وعلى حين ينطلق الدكتور الربيعي من ضمير «الأنا المتكلم» يذوب أديب نوبل في «عبد ربِّه التائِه».
قد يُصيب الكاتبَ كَدُّ الذهن وإجهادُ البدن وجحودُ معاصريه فيحرق كُتبه التي قضى عمرَه يؤلفها ليضع لَبِنة في ضمير الإنسانية، مثلما فعل أبو حيان التوحيدي في كُتُبه بعد تجاوزه التسعين (310-414هـ)، وقد تقضي الكتبُ على مؤلفها وقارئها مثلما قضى ركامُها على الجاحظ بعد التسعين (159-255هـ)، وكثيرون أحرقوا كتبهم أو دفنوها يأسًا واكتئابًا، ومن ثم فإن من أدقّ علامات خصوصية شابِّ التسعين الدكتور الربيعي أن نغمات ذاته وإيقاع ترنُّماته تنثال ومضاتٍ تحاكي حالة الكتابة السيرية؛ فقد تأتي الومضة في مقطوعة شعرية لشاعر يستلهم فيها حكمة التجربة، أو بيتي شعر كأنه كان يترنم بهما وهو يخط سيرته، أو كان البيتان رسالة إلى إنسان ذات يوم؛ أو هي رغبة سارد السيرة مشاركة القارئ متعة التذوق؛ فتحْت عنوان «أٌكاتِمُه حُبي»:
إلى الذي نام عن لَيلِي، وأسْهَرَني
ومَنْ إليه على الأيـام تَحنـــاني
ومَنْ أُكاتِمُـه حبّي، وأُوهِمُـه
أنّ اقترابي، وبُعدي عنه، سِيّانِ!!
إبراهيم المازني (15)
إنه استدعاء الإنسان، وفن حضوره في خلود قصص الحب الإنساني وألوانها وآلامها، ورسالة الكتابة بين الشاعر وسارد السيرة من ناحية ثم بينهما ومتلقي السيرة من ناحية أخرى؛ لتكتمل دائرة تراسُل الوجدان الإنساني بذائقة الكاتب عبر أجيال مختلفة التلقي، رغبةً في مشاركته ملامح الهُوية وتوجه المشاعر، وقد تتكرر هذه الظاهرة لاستدعاء حكمة الشاعر وفلسفة خبرته مكثفتين مقطَّرتين في ضمير كاتب السيرة الدكتور الربيعي، منها ما جاء تحت عنوان «هذه النار من قسمتي»، فيورد أبياتًا لزميله في كلية دار العلوم جامعة القاهرة، الشاعر «السوداني المصري الليبي» محمد الفيتوري (1936-2015م) في ذكرى رحيله التاسعة:
يا خَالقَ الإنسانِ من طينةٍ
وخَالقَ الفنّانِ من طينَةِ
عَذَّبتَنِي بالفَنّ، عذَّبتني
بِهَذِهِ النَّارِ السّماويّةِ
لم تُشقِني دَمَامتي في الوَرَى
لم تُشقني إلا حَسَاسِيّتي
أدعوك، لا تُشقِي بها كائنا
بعدي، فهذي النارُ من قِسْمَتي!!
وهي مقطوعة شعرية مُختارةٌ من قصيدة، ضِمن كلمة كتبها على «الفيس بوك» عندما تناهَى إلى سمعه خبرُ وفاته رحمه الله، ولا يخفَى إدهاشُ الفيتوري المُعجِز في مناجاته الآسرة، واستسلامُه الآمِن لقضاء الله القادر وقدَرِه، ما يجعل الأبيات وصورتها وآلامها مستغرقة في تمكنها من قلب المتلقي، يقول: «بوفاة الفيتوري، يفقد الشعر العربي، في نظري، واحدًا من أكبر شعراء العصر الحديث، أتذكر أننا حين كنا طلابًا، كنا نسعى وراءه لسماع شعره في كل مَظِنَّة، وكنا نفعل ذلك معجبين، منبهرين»(16)، وقد يورد بيتين للشاعر اللبناني سعيد عقل (1912-2014م) تحت عنوان «أحبّك، مُنخفِضَ الطّرْف»(17)، أو للمُنَخّل اليَشكُري وجسّاس بن مُرّة والمتنبي وأبي العلاء المعري وابن الرومي وابن زيدون وابن خفاجة الأندلسي وأحمد شوقي والفيتوري، وكثيرًا ما تنتثر الحكمة وأبيات الشعر وأشطرها مُشِعّةً في جنبات السيرة، ومنها ما أبدعها الكاتب، وليس من شك أن هذه الإشعاعات الشعرية ركن كُلّيٌ في تكوين كاتب السيرة، يستوحيها غنية الدلالة تُهدّئُ من وهج الذكرى وتُلهبُها وقُودًا في قلبه «...شابّا في التسعين»، وليس من شك أن وقود الذاكرة سر من أسرار العمر الجميل، وهي أيضًا مُؤنِسات هذا العمر بقاءً ورحيلًا، فيستلهم من حكمة الراحلين راحة النفس، ولكنه يُلخّص المعنى الذي وقر في قلبه عنوانًا للأبيات التي صارت بين يديه ومضة شعرية جديدة، يقول تحت عنوان «فائدة مزدوجة»(18):
قضى اللهُ أن الآدميَّ مُعَذّبٌ
إلى أن يقول العـالِمون به قَضَى
فَبَشّر وُلاةَ المَيْتِ يومَ رحيله
أصابوا تراثًا، واستراح الذي مَضَى!!
أبو العلاء المعري
فبين استراحة الراحل وبقائه تراثًا كان عنوان البيتين.
إن أول ما يلفت انتباه قارئ سيرة «بعد التسعين» صورة الغلاف الأمامي لأستاذنا القدير الدكتور الربيعي شابًّا في العشرين أو دونها بزيه الأزهري في معهد أسيوط الديني، تُغرِي بتتبع ومضات الماضي في جُهَينة وسوهاج وأسيوط وصعيد مصر أو مصر العُليا، ثم صورة الغلاف الخلفي بزيه الأوروبي تلهم بتتبع ومضات الحاضر القريب بين مجمع اللغة العربية والجامعة الأمريكية وجامعة القاهرة وإنجلترا وحضوره الأكاديمي في ميدان التدريس الجامعي والعمل الثقافي في عواصم العالم، صورتان تسمحان للقارئ أن يعيد ترتيب ومضات السيرة تصاعدياً من مرحلة التكوين، أو تنازلياً من حاضر الوجود المؤثر في حركة النقد الحديث، خاصة أن الكاتب القدير لم يؤرخ لكل ومضة، إلا ما دونه مؤرخاً في متنه.
وفي كِلا التوجُّهين تفرض «الهُوِية» إيقاعها القوي، وتشكل الهوية ملامح حياة الإنسان في ذاته وداخل مجتمعه، باعتبار الهُوية «خاصة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، وهي موضوع إنساني خالص»(19)، ودائمًا ما يسعى الإنسان إلى إثبات هويته داخل الوجود الإنساني من خلال اتصاله بالآخر والتفاعل معه، ومن هنا فالهوية: مخترع ثقافي نشأت من حاجة الفرد إليها؛ لأنها ردة فعل إزاء التحديات التي تواجهه(20)، فتحْت عنوان «في الصّومَعَة» تتجلّى هُويّة الدكتور الربيعي متفرّدة تتماهى في تاريخ جمع الناس الذين يذكرهم، وتتآلف مع المكان العبقري الذكرى والتذكر في ركن من المنزل، مستدركًا فضل زوجته الكريمة التي آثر أن يُفرد لها وحدها ومضة «نبوية الترزي..شكرًا» إحدى أهم بناءٍ وأحبه في أبنية موطن الذكريات، يقول: «في بيتنا شُرفة زجاجية مُحكمة الصُّنع، أهدتها لي زوجتي، وأقسَمَتْ بمغلظات الأيمان أن تدفع تكاليفها كاملة من حُرّ مالها الذي يأتيها من رِيع أرض ورِثتها عن أبيها، فيها فقط من الأثاث ما يكفي لتوفير الراحة ... معزولة عن كل قسم آخر من البيت، آوِي إليها ليلًا ... وأُخصصها للذكريات فحسب، ليس فيها كتب، وليس فيها كمبيوتر أو تليفون أو تليفزيون، وإنما فيها راديو صغير جيّد، أستقبل به إن شئتُ جميع محطات الإرسال من كل أرجاء العالم»(21).
هذه الومضات السِّيرِيّة المئة والسبع والعشرون (127) بإنسانها وأحداثها ومعانيها ودلالاتها، تمثل أجناس التعبير الأدبي نثرًا وشِعرًا؛ الشعر، والإبيجراما، والقصة القصيرة، والقصة القصيرة جدًّا، والمقال الأدبي، والمذكرات، واليوميات، والخاطرة، وأدب الاعتراف، وبعد الانتهاء من قراءتها يسيطر علينا -إن جاز التعبير- روحُ «الرواية الذاتية» بتفاصيلها الدقيقة، فالبطل يتكلم بضمير «الأنا» يروي ويسرد، يسمع ويتكلم، يفرح ويتألم، يعاني ويصبر ويعالج، يستدعي نماذج بشرية، مشهورة ومغمورة، تراثية وحديثة ومعاصرة، عربية وأجنبية، قريبة وبعيدة، من الأسرة الصغيرة والعائلة الكبيرة، في جُهينةَ وسوهاج وأسيوط والقاهرة والشرقية ولندن وباريس وربوع العالم الفسيح، من الوسط الأكاديمي وخارجه، راحلة إلى عالم خلود الروح ومقيمة بكيانها الإنساني في عالمنا.
هذه النماذج الإنسانية روحًا وجسدًا استدعى الدكتور الربيعي صُورهم أبطالًا في هذه السيرة الأدبية الذاتية، فالبطل في الأدب -كما يرى عزت بيجوفيتش في كتابه «هروبي إلى الحرية»- لا يتحدد بأهميته الاجتماعية، وإنما بحجم القضية الأخلاقية التي يمثلها، فالملك في الرواية أو المسرحية يمكن أن يكون شخصية غير مهمة، بينما الخادم هو البطل، إن الأدب يُعرّفُنا على روح البطل، بينما تعرفنا الحياة على الناس من الخارج، قد يوجد بجوارنا أحد الأشخاص لسنوات فنعتقد أننا نعرفه، وفي الحقيقة ما نعرفه لا قيمة أخلاقية له، والمهم في الحقيقة هو ما يخبرنا به الأديب عن هذا الإنسان»، هذه هي المعرفة الحقيقية عن الإنسان، فليس المقصود في العمل السّيرِيّ هو الحقيقة المرجُوّة التي ينتظرها عامة الناس عن الناس، أو «التصوير الذي يعكس العالم الحقيقي وينقله إلى النص مادام هذا التصوير ينطوي على حقائقه المستمدة من تجارب صاحبه وانطباعاته، ومن سِجِلّ ثقافته الموروثة التي يختزنها في ذاكرته؛ فإن الروائي -مثل كاتب السيرة- غير مُطالب بتوصيل الحقائق الأمينة، وإن كان مطالبًا بأن يُنشئ أدبًا جيدًا وتخييلًا صادقًا بالمعنى الجمالي»(22).
**__**__**__**__**__**
(1) بعد التسعين: سيرة ذاتية، محمود الربيعي، دار النسيم للنشر والتوزيع، ط1، القاهرة 2024م.
(2) للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1903-1997م) سيرته «ذكرياتي»، دونها في الرابعة والثمانين من عمره، وقد تجاوز التسعين بأربع سنوات.
(3) حكايتي بعد التسعين، د. عبد العزيز العلي النعيم، دار مدارك للنشر والتويع، المملكة العربية السعودية، ط1، 2020م.
(4) ترجمة: أحمد نور الدين رفاعي، منشورات جدل، الدمام، المملكة العربية السعودية، ط1، 2024م.
(5) بعد التسعين: 23.
(6) حكايتي بعد التسعين: 5. (دكتوراه القانون في كلية الحقوق جامعة القاهرة «1959-1974م»، عضو مجلس الشورى السعودي وأستاذ القانون في جامعة الملك سعود).
(7) مذكرات الشيخوخة: 11.
(8) بعد التسعين: 23،24.
(9) عالم الدراسات اللغوية وأستاذ علم اللغة في الجامعة الأمريكية بالقاهرة (1929-2014م)، وأحد أعمدة الدراسات اللغوية الحديثة في الجامعات والمراكز البحثية اللغوية المصرية والعربية والعالمية «ويكيبيديا»، ومترجم معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية، المشرف على مركز تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها، كان لي شرف العمل معه في هذا المركز بالجامعة الأمريكية بالقاهرة (1999م).
(10) بعد التسعين: 23.
(11) السيرة الذاتية: الميثاق والتاريخ الأدبي، فيليب ليجون، ترجمة وتقديم: عمر حِلّي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1994م، 24.
(12) بعد التسعين: 5. (أستاذ طب القلب في جامعة القاهرة، ومؤسس الجمعية الوطنية للتغيير).
(13 ) بعد التسعين: 36. (كما كان لي شرف التدريس في الجامعة الأمريكية بالقاهرة بعد تفضله بانتدابي وسيادته رئيس القسم عام 1999م، والدكتور السعيد بدوي -رحمه الله- مدير(CASA) في الجامعة نفسها).
(14) زمن الرواية، د. جابر عصفور، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة 1999م، 95.
(15) بعد التسعين: 135.
(16) السابق: 130. (كان المثقفون في الدول الثلاث يتنازعون انتسابه إليها، رحمه الله).
(17) نفسه: 136.
(18) بعد التسعين: 159.
(19) الهوية، حسن حنفي، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2023م، ص8.
(20) انظر: القبيلة والقبائلية أو هويات ما بعد الحداثة، عبد الله الغذامي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط2، 2009م، ص52.
(21) بعد التسعين: 0165.
(22) الاستشراق، إدوارد سعيد: المعرفة، السُّلطة، الإنشاء، ترجمة: كمال أبو ديب، مؤسسة الأبحاث العربية، ط2، 1984م، 54.
** **
- قسم الأدب والبلاغة والنقد