منيرة العصيمي
زوجان يبحثان عن طاولة كي يتناولا عليها وجبة الغداء، وبيد كلّ منهما كتاب. بينما تحمل الزوجة في يدها الأخرى كيسًا صغيرًا لأشهر متاجر مستحضرات التجميل. وعندما اتخذا لهما مكانًا مناسبًا في المطعم بدأت السيدة تنظر إلى مشترياتها، وتنزع الملصقات من علبها. ينظر إليها السيد مبتسمًا فاستعانت بالكاميرا الأمامية لجهازها، وبدأت بوضع أحمر الشفتين. وشرع هو في تأمل أرجاء المكان، ثم استغرقا في حديثهما، وأمام كلّ منهما كتابه وجهازه. فتداعى طنين جرس المنبه على الطاولة بالقرب من الزوج ليخبرهما باستلام طعامهما. ثم تنبهت بأنني شردت متماهية مع هذا المشهد، فعدت بنظري إلى حيث طاولتي، وكوب قهوتي، وجهازي اللوحي، وقلمي. لأبدأ في الكتابة، وأشكرهما من عمق قلبي لأنهما صارا ملهميّ، وإن كانا لايعلمان بشرودي نحوهما. ثم تراءى في ذهني قول إحدى صديقاتي عندما أخبرتني ذات مرة بأنها تخشى أن تشاركني بعضًا من قصصها، فتجد نفسها بطلة إحدى حكاياتي المتخيلة.
ضحكت من قولها، ثم أضفت حقيقة طريفة إلى جانب الحقائق اللطيفة التي لازلت أضيفها بين الفينة والأخرى: وهو أن هناك من يخشى الحديث العميق مع الكتاب وهذا مايدهشني. ففي كل مرة تضيف الدهشة رونقًا أخاذًا إلى فصول حياتي، ومايبهرني أيضًا في هذه الدهشة أنها لاتتخذ شكلًا واحدًا، وإنما صنوفها متعددة، وأصادفها في يومي فلا تبدو بأنها متأهبة للقائي، وإنما تجيء مباغتة فتخضب ملامحي لونًا رائعًا وكأن الحياة تدب في كل خلايا وجهي. فأنظر إلى مابعد هذه اللحظة الخلاقة ولاشيء يعود إلى سابقه، وكأنني انتقلت إلى مرحلة تفوق سابقتها بأميال عديدة.
وعندما ترتفع أرواحنا فوق أرض جديدة سيبدو كل شيء بداخلنا مختلفًا بما فيه ذوقنا: ننصت إلى الموسيقى لأول مرة، ونتذوق قهوتنا بطعم آخر، ونتبضع بصورة مختلفة عن طريقة اختياراتنا السابقة. كذلك طعامنا يبدو متمايزًا، والأماكن التي نختارها لنمضي فيها أوقاتنا الماتعة.
وبين الأصدقاء تبدو أحاديثنا أكثر رزانة وحكمة، بينما وعينا قد نضج، وطريقة تفكيرنا قد ارتقت. ثم نتساءل: ألهذا التأمل دور في تطورنا؟ وعندما نراقب حياتنا نجد بأننا قضينا ساعات طويلة غارقين في تأمل مشهد ما سواءً أكان محسوسًا أو من نسج خيالاتنا.
أعود لأغرق في لحظتي وقد مرت ساعة من لحظة جلوسي، ولم أفطن لمضي الوقت إلا بعد أن فرغ الكوب من القهوة، وقد بدت آخر رشفتين باردتين، ثم أرفع رأسي فإذا بالوجوه حولي تبدلت. فرحل الجالسون، وجاء من بعدهم آخرون. فارتشفت آخر رشفة باردة وبدأ لي الكوب وكأنه تحفة قديمة قابعة فوق خشب الطاولة، وينتظرني بأن أرحل وأصطحبه معي. فوضعت بيدي على خدي متكئة على حافة سطح الطاولة بينما أكتب آخر سطور قطعتي هذه والموسيقى في المكان تتزايد في صخبها، والأشجار تتراقص محدثة حفيفًا لطيفًا وكأنها تنادي الحمام الذي افتقدت هديله. ثم تذكرت ماكتبته ليلة البارحة قبل أن أخلد إلى فراشي فتمتمت: (في ليلة شتاء زمهرير أشفقت على هذه النظرة الشاردة في الفراغ والغارقة في تيهها وبين الشرود والتيه تنظر إلى أرض حياتها بقعة بقعة). كتبتها ووضعت النقطة معلنة لذاكرتي ساعة الانتهاء ثم شطبت كلمة ليلة وكتبت بجانبها كلمة نهار.
لحظة تأهبي للنهوض وبعد أن ظننت بأنني فرغت من الكتابة حال أن وضعت النقطة التي تلت مفردة نهار فإذا بطفل صغير لم يتجاوز الخامسة من عمره يهرع إلي مندفعًا ومن خلفه أمه، وبيده لعبة على هيأة مكعب صغير نصفه أحمر والنصف الآخر بلون أصفر. فأخذ بيدي اليسرى وحملها إليه فألصق بلعبته على ظاهر كفي وهو يقول:(الحين تصير رسمة). ثم أزاحها فإذا بنجمة حمراء تزين شكل كفي. فابتسمت وأنا أنظر إليها والتمعت عيناي عندما وقعت في عينيه فكانت هذه أجمل دهشاتي ظهيرة يوم الجمعة التي فيها احمرتْ نجمتنا.