د. شاهر النهاري
تكوينات الشعب السعودي تختلف بين بدو وقرويين وأهل مدن، وكلهم ينتمون إلى مجموعات أسرية، أو قبلية، سواء كانوا مجتمعين في منطقة جغرافية ضيقة، أو منتشرين بين حواضر المملكة سعيا للرزق، وتبعا لكينونة التطلعات والراحة والهوى، وبما يختارونه مقرا لسكناهم، سواء أثناء نشاطهم الدراسي والعملي، أو باختيارهم بعد بلوغ مراحل التقاعد، أو ما تجبرهم ارتباطاتهم وأنشطتهم للبقاء فيها.
الأسرة نواة الشعب، وبعض الأسر تكون عريضة عريقة، ولها تاريخ، ومقرات وآثار، ووقف، وبعضها تكون متوسطة الزمن والحال، وكل أسرة يكون لها رموز كبار في السن، أو في المكانة، يكونون محورا لتجمعاتهم، وتحركاتهم، وتآخيهم، وترابطهم ودعمهم لمن تتعثر به طرق الحياة، وللاحتفال مع من يحتفل، والحزن والتأبين لمن رحل، والأسرة تستمر بوجود الأخلاق والبركة والتراحم والمحبة والتقدير والاحترام بين أفرادها، ووجود المميزين من أبنائها يبرزون في المناصب الحكومية، والأعمال التجارية والثقافية.
والتناغم يحدث، ولو أن البعض يصابون بخلافات تحدثها المنافسة، سواء على ترؤس الأسرة أو القبيلة، أو التكفل بالمشورة والمعونة والوقوف مع المحتاج، والبعض ينافس بطرق قد تسيء للسن والمكانة ولا تحترم الأصول.
وقد يستمر تأجج الخلاف في تلك النواحي، وقد يزداد الشق توسعا، لدرجة انقسام الأسرة إلى عدة فروع معاندة، وربما يجنحون إلى ما هو أكثر بالخروج على معطيات الأسرة، واختيار مسميات جديدة تتفرد وتباري أو تظل تحت مظلة الأسرة الكبيرة.
وما يحدث في الأسر، يحدث بشكل أوضح في القبائل، فنسمع عن انقسامات متعددة بتعاظم أعداد الأفراد فيها، ولو أن الكل يظل يشير للقبيلة الأساس يعتز بها، ويظل هنالك حراك حميد بين شيوخ القبائل، والمصلحين، للربط بين المتباعدين، وتأكيد شروط القرب والتآخي من الفزعة للمحتاجين، وعمل الصناديق التعاونية المشتركة، والوقوف مع المحتاج، وكل من تحصل له مصيبة، لا يستطيع مواجهتها بنفسه فكأنهم البنيان المرصوف، بقدرتهم على حمل بعضهم البعض.
وفي كل هذا تبرز أعمال خير وتكافل اجتماعي، وولاء للكبير، ومعرفة بالقدر تستمر للأحياء والأموات، ومهما تكاثرت الأجيال، ومهما ابتعدت الخطوات، ومهما غابت الوجوه، ومثل هذا يحدث في الأسر الكبيرة.
ووسط الأسرة أو القبيلة الواحدة، يشيع وجود القوانين الخاصة المتعارف عليها مما لا يكون مكتوبا، ولكنها تصبح سلما وعادات وتقاليد يتعارفون عليها، ما يجعل كل فرد مهما كانت مرتبته في الأسرة أو القبيلة، يدرك التسلسل من حوله ويحترمه، ولا يطالب بما ليس له، ويعطي الحق لأصحابه طوعا.
ولكن الأنفس ليست سواء، والضعف يحدث مرات، والأخطاء تبرز، وتجعل البعض يخرج من منظومة الأسرة أو القبيلة ويتمرد على أصولها وبديهياتها، وقد يجمح، وقد يرفع الصوت، ويحطم التقاليد، ويطالب بما يعتقد أنه حقا له، وربما يتصادم ويختلف مع الكبار أو القرناء من عشيرته، وقد تنفع النداءات الداخلية، وتفعل حكمة الكبار ونصح العارفين، لإعادة لم شمل المختلفين في الغالب، ولكنها في مرات تفشل، وتدخل فيما يعرف بلجان إصلاح ذات البين، وعمل الكبار على تقديم بعض التنازلات، ومحاولات تقريب وجهات النظر المختلفة، وتأكيد أن الأسرة أو القبيلة ما تزال متماسكة متحابة، تحترم ذاتها وتراحمها ووجودها، وتساعد على ابحار السفينة، وسط أمواج الواقع، والمستجدات، والتغيرات النفسية والشخصية، باعتبار الصغار تكبر، والتعليم والفرص تعطي المراكز المعتبرة في الدولة، ودخول عوالم التجارة، ما يعطي البعض قيمة جديدة وهيبة ومكانة تؤثر في الترتيب وتجعلهم يستحقون على إثرها أكثر مما يحوزون من التقدير الأسري والقبلي.
نظام الأسرة والقبيلة هيكلية مفيدة متوارثة تدوم بمشاعرها، وهي من أجود مميزات شعب الوطن السعودي الأصيل النوعية.
أما الحكومة السعودية، فهي الخيمة الكبرى، والتي تضم الجميع، سواء كان فردا لا شجرة له، أو أنه ينتمي لأسرة صغيرة أو كبيرة، أو من كان له امتداد على شكل قبيلة مترامية الأطراف.
الخيمة السعودية هي الملاذ، وهي الحمى، وهي القوانين المنظمة المكتوبة الملزمة، والتي يتم تثبيت عرى الحكم من خلالها، فلا يستطيع من بداخلها أن يعاند أو يتعدى، أو يطلب الانفصال عن الكينونة السعودية، وهي التجمع الأم الرؤوم، والذي يتمتع بكل الحقوق، ويتمكن من فرض أي شروط تستحدث، لصالح الوطن والشعب، ودون تمييز، فهي التي تنظم الصفوف، وتبني الكينونة والحدود، وتختار رجالاتها من مختلف الأسر والقبائل دون تمييز، ليكونوا أذرعها الفاعلة في الحكم والجيش، وقوات الأمن، وفي مختلف المهن والتخصصات وفي الوزارات والمؤسسات والمنظمات، سواء في داخل السعودية، أو في خارجها.
والخيمة السعودية المحترمة من الجميع، لديها كل الحقوق فيما تفعل، حسب الرؤية المفيدة الجامعة، وكلمتها تظل دائما الأعلى، على جميع الأصوات النشاز، تبعا لقدراتها وتمكنها وتمتعها بخصوصية البحث والتيقن والقرار، بمنتهى الشفافية لتختار كل عنصر لها من خليط الشعب، وأن تجعله يحل نفس المنطقة والمجال، الذي تعرف أنه سينتج فيها الأفضل، وأنه سيعلي البناء، ويتعاون، ويكتب قصص الوفاء والوطنية، ويجعل نتاج أعماله ربحا وراحة وترقيا للعموم، بدورانه في فلك سلطات الحكومة، التي تشكلت من بنية الشعب، وأثبتت أنها واعية كريمة طموحة، لا ترضى بأي ميل، أو خيانة، وأنها أول من يساوي الرؤوس، ويحارب الفساد، ويمنع الواسطة، فبنت وجودها على قضاء مستقل، حقق خصوصية الإنسان رجلا كان أو امرأة بوجوده في المكان المناسب متعاونا متفانيا، بكل تبجيل وتشجيع وزرع للثقة في الأجيال، وبالرعاية والبذل وتنظيم الحياة منذ الساعات الأولى لولادة الطفل صحته ورعايته وتعليمه وحياته النفسية والمعيشية، ومهما اختلفت الدرجات بحوز المبادرين، إلا أن العموم يتربون على ولائهم، للخيمة العظمى، ويعتبرون ولائهم للأسرة أو القبيلة مرحلة تربية منهجية اجتماعية منفتحة تعليمية تأصيلية تؤدي بثمارها لولاء أعظم للدولة، حينما يفتخرون بانتمائهم لها والذود عنها وافتدائها بأرواحهم، وكل من مكانه الذي يبدع فيه.
كينونة الأسر والقبائل السعودية منظومة محبة وشراكة تآخي، وهي ما يميز الوطن السعودي، في سيمفونية حب وتناسق للفرد والأسرة والمجتمع مع سائر الأطياف، في هرمونية نفتخر بها، وبتنوعها، مصدر فخر وترابط، ومحبة، بين كل سعودي وإخوته وأخواته، من أبناء هذا الشعب الأبي الكريم المتقارب، يبني ويحمي، ويستحلي أن يكون ولو وتدا بسيطا، لأطناب الخيمة العظمى، التي تحمينا، وتجمعنا، وتكتب أسامينا على مدرجات الشرف والرفعة والرخاء بين الأمم القديمة والحالية والمستقبلية.
أحبك يا خيمة تاريخي، ويا علم عزتي.