حامد أحمد الشريف
المزاوجة بين الواقع والخيال في المجموعة القصصية «عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» للكاتبة السعودية «رجاء البوعلي».
من المعلوم أن الخيالَ ركنٌ رصينٌ في الإبداع لا يكون إلا به، مهما تعددت أوجهُهُ أو تغيرت المهارات التي يعتمد عليها، وبقدر اتساع هذا الخيال يكون حجم الإبداع، وذلك يعنى أن قيمة المهارة ترتبط طرديًا بكمية الخيال التي عجنت به وأبعدته عن الواقعية، ويُستثنى من ذلك المهارةُ التي تقترن قيمتها عادة بمدى تطابقها مع الواقع، كالمدرسة الواقعية في الفنون التشكيلية، وكذلك رسم الوجوه «البورتريه» أو الكتابات الواقعية كالسير الغيرية والتاريخ ونحوِهما، ولكن يعيب كلَّ ذلك؛ عدم القدرة على توظيف المهارة واستخدامها لإيصال أفكار وفلسفات الفنان أو الكاتب نفسه، إن لم يكن صاحب المهارة قادرًا على مزج الخيال بالواقع، وبالتالي افتقارها للمغازي والأعماق المثرية، واقتصارها على قيمة جمالية سطحية لا تدوم طويلًا، أي إن إحياء المهارات وتدسيمها واستدامتها يقترن على الدوام بالخيال.
ذلك ما يدفعُنا للقول بشكل مبسط إن الخيال هو التفاصيل الجديدة التي يشتغل عليها المبدع ويحطم بها الأغلال ويمنح من خلالها قيمةً إضافية للواقع الـمُحاكَى، وهو بهذا الوصف يمنح المبدعَ القدرةَ على قول كلمتِه الفصلِ واستظهارِ أفكاره وفلسفاته وتوظيف مهاراته لإيصال صوته، بينما لا يكون له ذلك في حال كان الواقع مستحوذًا على مهارته واستكان تحت جدرانه.
وحتى لا نبتعد كثيرًا نخصص حديثنا عن الكتابة الإبداعية فنقول إن الكاتب المبدع هو من يستطيع تضميخ كتاباته بفلسفاته وأفكاره وإخراجها من السطحية، مستخدمًا الخيال كوعاء يحقق له كلَّ ذلك، ومن هنا ظهر أدب السرد بكافة أشكاله وألوانه، أي أن نسبة الخيال تشكل قيمة حقيقية للقطع النثرية والشعرية أيضًا، ترتفع قيمتها بازدياد نسبته وتنخفض بانخفاضها ويستثنى من ذلك السير الذاتية التي تستغني إلى حد ما عن الخيال،وتعتمد على عواملَ أخرى في استظهار قيمتها، وإن كان بعضهم يعتقد أن الانتقائية في سرد الواقع، وتسليط الضوء على مفاصل معينة، واستعادته بعد فترات انقطاع زمنية طويلة، وكذلك التفسيرات والتأويلات والاستشهادات الممنهجة، تُعد جزءًا من الخيال الذي يمنح مثل هذه السرديات الواقعية قيمة تخييلية إضافية، خلاف أن الفضائحية والقيمة الحكائية العالية تمنحها قيمة مؤقتة تدفع للقراءة الأولى وتختفي بعد ذلك أو تقل، ما يغنيها إلى حد ما عن الخيال المحض في صياغتها الكتابية، وفي الأمر تفصيل أكبر لا يعنينا في هذه الوقفة.
وبالعودة إلى قيمة الخيال والواقع للمرويات السردية، نجد أنهما صنوان لا ينفصلان فأي منهما لا يستغنى عن الآخر، فالسرد لا يقوم بدون واقع معين ينطلق منه، والواقع لا قيمةَ له بدون الإضافات التخييلية، وإن كانذلك جانب تنظيري قد لا يؤمن به بعض المبدعين؛ ممن استطاعوا تدوين سرديات واقعية إبداعية تصف تجربتهم الحياتية ويكاد ينعدم فيها الخيال، من دون اختلال قيمتها الحكائية، واستدامة حضورها في أذهان المتلقين،ويمكننا تلمُّسُ ذلك في مرويات الكاتب المصري المبدع إحسان عبدالقدوس وكذلك الكاتب المصري المبدع إبراهيم أصلان، وغيرهما من المبدعين الذين استطاعوا تدوين الحكاية الواقعية كما هي بدون تصرف في وقت منحوا كتاباتهم قيمة كبرى من خلال تضمينها لأفكارٍ ومغازيَ عميقة وفلسفات، استنطقوها في وصفهم المجتزئ وجعلوا من كتاباتهم تلك أنموذجًا للكتابة الواقعية الراقية التي تُخضع الواقع لسلطان الخيال، وتوظفه لإيصال مستهدفات الكاتب القيمية بطريقة مقنعة ومقبولة، وبالتالي فهي لا تبتعد كثيرًا عن الأدب السردي الخيالي إن لم تتطابق معه.
إن هذه القيمة التي حفلت بها كتابات إحسان عبدالقدوس وإبراهيم أصلان وغيرهما من المبدعين العالميين -رغم واقعية مروياتهم وعدم تقيدهاباشتراطات القصة - ، شكلت تحديًا كبيرًا لأقلامهم نجحوا في تجاوزه، بينما أخفق كثيرون عند استنساخهم لهذه التجارب الإبداعية، فظهرت كتاباتهم سطحية ممجوجة لا قيمة لها، ولعل ما أعان هؤلاء المبدعين الأوائل على تجاوز هذه الصعوبة؛ خبراتهم الحياتية الكبيرة، واعتناقهم كثيرًا من الأفكار الفلسفية المتجردة، وامتلاكهم ناصية اللغة، وحرفيتهم الكتابية العالية، وقدرتهم الحكائية المميزة التي منحتهم القدرة على نقل الواقع بهذه الطريقة الصعبة، وهم يتعمدون إهمال الخيال، أو لنقل تقليل نسبته مع الاحتفاظ بقيمة كتاباتهم.
الآن يمكننا تركُ كل ذلك والذهاب باتجاه كتابنا «عشرة أيام في عين قسيس الإنجيلي» للكاتبة السعودية المبدعة «رجاء البو علي « الصادر عن منشورات جدل في مائة واثنتين وستين صفحة من القطع المتوسط، ولقد اضطررت لتدوين هذه المقدمة الطويلة، لإيصال الفكرة التي منحت هذه المجموعة القصصية المكونة من خمس عشرة قصة قصيرة قيمتها الحقيقية على الأقل من وجهة نظر شخصية ، وكان أكثر ما ميز هذه المجموعة خلطُها بين القصص الخيالية المعتادة والقصص الواقعية السيرية التي تظهر فيها الكاتبة بشحمها ولحمها وفكرها وفلسفتها المباشرة، وإن كانت مجرد إضاءات على مواقف معينة تعرضت لها الكاتبة وسردتها كما هي بواقعيتها، ويمكن حصرها في قصص «عاملتي الأفريقية» و»شقة في الملحق الأخير» و « عشرة أيام في مركز عين قسيس الإنجيلي» وكذلك القصة الأكثر أهمية «عيني على نعش» و»سيدة المكتب الجديدة»، وإن كانت نسبة الخيال الموظف قد ارتفعت في هاتين القصتين، ولم تكن كالحكايات الواقعية في الثلاثِ الأُوَل.
وبالعودة للقصص السيرية الواقعية الخمس نجد أنها تشابهت في إهمالها للخيال إلى حد ما، وتقليلها من حضوره، ونقلت لنا واقعًا معينا عاشته الكاتبة وأخبرتنا بكل تفاصيله الدقيقة، وكان يمكن لنا تناولُه ضمن أدب السيرة، وإن كانت مقتطفات وليست حياة كاملة وهذه الخاصية الشذرية بالمناسبة لا تخرجها من أدب السيرة، فالسيرة الذاتية إنما اتصفت بهذه الصفة من خلال سردها للوقائع الحقيقية وتجنيبها للخيال ولا يشترط في ذلك أن تكون طويلة أو قصيرة أو أنها تمثل الحياة كاملة أو جزءًا منها، وهو ما نقلته لنا هذه الحكايات الخمس، بداية مع العاملة المنزلية التي وصفت لنا الكاتبة تجربتها معها كاملة من وقت حضورها حتى مغادرتها، واتخذت نفس الأسلوب في وصف حياتها في السكن الجامعي بكل تفصيلاته وعلاقاته المضطربة، وختمت هذه المرويات السيرية بحكايتها الطويلة نسبيًا عن تلك الأيام التي قضتها في لبنان من خلال مركز مسيحي انخرطت فيه مدة عشرة أيام. ويمكن إضافة قصة «عيني على نعش» التي أسهبت الكاتبة من خلالها في التحدث عن والدها ومنحته القيمة التي يستحقها وجددت إيمانَنَا بمقولة «إن كل فتاة بأبيها معجبة» وكانت قد فردت لها مساحة كبيرة للحكي تقدر بسبع عشرة صفحة ولم يتفوق عليها غير قصة «عشرة أيام..» التي وردت في خمس وعشرين صفحة.
إن قصة «عيني على نعش» وكذلك القصة الأخيرة «سيدة المكتب الجديدة» يمكن اعتمادهما كحلقة وصل بين الواقعي والمتخيَّل، فحكمها يختلف إلى حد ما عن بقية القصص الواقعية، إذ إن نسبة الخيال في «عيني على نعش» ترتفع إلى حد ما بداية من العنوان الذي لم يذكر الوالد يرحمه الله صراحة وإنما استخدم عنوان تخييلي له دلالاته السردية ويستخدم عادة في القصة القصيرة الإبداعية، بما له من إشارات سيميائية ذات قيمة كبيرة تبتعد به عن الواقع، رغم ارتباط الحكاية بذكرى موت الوالد، وبالتالي استطاعت منحه مساحة تأويلية أكبر، وأحضرت حاسة النظر لتأكيد هذه المغازي العميقة التي يحتملها العنوان، وهي بذلك قد وظفت الخيال في السرد، طالما أنها استطاعت دفعنا للتفكير في الحالة الوجدانية والفكرية والفلسفية، التي غالبًا ما نعيشها ونحن ننظر لأي نعش، حتى لو لم يكن لنا علاقة بالراقد بداخله، وأتت الحكاية بعد ذلك وجدانية، تعبر بالفعل عن علاقتها بوالدها بكل تفصيلاتها، بينما كانت الحكاية الأخيرة «سيدة المكتب الجديدة» حلقة وصل بين الخيال والواقعية في متنها، عندما استلهمت الكاتبة تجربتها الشخصية في قيادة فريق العمل، بوصفها الأنثوي، وأخذتها لأبعاد تخيلية وإن بنسب معتدلة حتى توصل مستهدفات القصة الفهمية بعيدًا عن تجربتها الشخصية، حيث إن التفاصيل لم تكن كلها واقعية رغم اتكائها على الواقع، وهي مزاوجة جميلة بين الواقع والخيال.
وبالعودة للحديث عن الواقع غير المتخيل الذي استطاعت الكاتبة نقله بطريقة أدبية ماتعة وحافظت على استدامة حضوره في وجدان القارئ وحاكت من خلاله أدب عظماء السرد العربي الواقعي، فنحن نتحدث عن ثلاث القصص الأولى، وإن تفاوتت قيمتها فهي تبلغ أوج عظمتها في القصة التي ظهرت في غلاف العمل، ونقلت لنا الواقع كما هو بدون حضور الخيال، إذا ما اعتمدنا على الصراع الموصوف والحدث المتوالد خلال عشرة أيام، فكل الأحداث والصراعات واقعية بتفاصيلها الزمانية والمكانية وبشخوصها من بدايتها حتى نهايتها، ولكن حصافة الكاتبة حضرت هنا،من خلال منحها قيمة إضافية من دون المساس بهذه الثوابت الواقعية فكان تداخلها في السرد بالتأويلات والإشارات وتوظيف المواقف في إيصال كثير من أفكار وفلسفات الكاتبة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، فكانت هذه المساحة الواقعية غنيةً جدًا بهذه التجاذبات الفهمية، التي أظهرت إبداع الكاتبة وجعلتنا لا نكاد نفرق بين الواقع والخيال، أي أنها استطاعت الجمع بين الواقع غير الموظف والمواقف التخيلية الموظفة، لإظهار بصمة الكاتب وإيصال أفكاره، وهذا المزج الفني شكَّل قيمةً حقيقية لهذه القصة تحديدًا،فبتنا نتعامل معها كأنها خيال صرف، ونحن نقف على المغازي العميقة والرسائل التي تريد إيصالها في كل منعطفاتها السردية، وتوظيفه الضمير المتكلم بطريقة تحاكي الروايات الإبداعية، في وقت نعجب من واقعيتها وسردها لأحداث عايشتها بالفعل، وكان ذلك نجاحًا كبير ًا للكاتبة استطاعت من خلاله المزج بين الواقع كقيمة تثير فضول المتلقي وتخاطب غرائزه المعرفية كما أسلفنا، وفي ذات التوقيت توظف هذا الواقع لقول ما تريد بطريقتها التخيلية، وهي تجربة ثرية تستحق السرد والتناقل بقيمتها الواقعية، عندما نجد كثيرا من المحاذير الاجتماعية تم تجاوزها، كانتقال فتاة سعودية مسلمة من بيئة محافظة للعيش في دير مسيحي بمفردها وما يترتب على ذلك من تجاوزات تتعلق بهذا الانتقال، فالكاتبة وظفته بطريقة رائعة لإيصال فلسفاتها باستخدام ضمير المتكلم الحكاء، الذي يبحر في التأويل والتفسير وحديث النفس ويتجاوز الواقع كثيرًا، بهدف إيصال رؤية الكاتب.
هذا النجاح الكبير الذي وقفنا عليه في الأيام العشرة حضر، وإن كان بنسبة أقل في قصة «العاملة» وكذلك قصة «الشقة» فكلتا هاتين القصتين نُقلت غالبًا بدون تدخل كبير من الكاتبة، واكتفت باستخدام أسلوب الاستفهام المعزز للمعاني المستهدفة، وترك فهمها لحصافة القارئ، وبالتالي انحصر تدخل الكاتبة في بث هذه الاستفهامات وتركها بدون إجابات محددة، مما قلل من قيمة الخيال وحصره في أضيق نقطة ممكنة، في وقت لم تفقد تلك الحكايات قيمتها، نظرًا للأسلوب الكتابي الأخاذ المعتمد على تقنية السرد الحكائي الجميل، الذي يعتمد على استحضار القارئ وتشويقه وإثارته وإمتاعه ودفعه للمتابعة بغض النظر عن أصل الحكاية، وهو الأسلوب الذي ينبغي أن يكون عليه السرد بالفعل، عندما يقل تأثير المتن الحكائي المتخيل والواقعي، وتنحصر أهمية المروية في أسلوبيتها البديعة، وبالتالي فإن هذا العمل يعد أنموذجًا يحاكي الكتابات القديمة التي نهض بها أسلوبها الكتابي البديع وفاق خيالها ومتنها الحكائي الواقعي.
إن حديثنا عن هذه القصص الواقعية الخمس بدرجات واقعيتها المختلفة ونِسَب الخيال المتدنية لا يمنعنا من الحديث عن بقية القصص الخيالية العشر؛ التي ارتفعت فيها نسبة الخيال بشكل كبير، واختزل الواقع، كما جرت العادة في نقاط ضوء بسيطة، ينطلق منها السرد ويتحول لبقعة ضوء كبيرة تحتضن صراعًا معينًا وشخوصًا وأزمنةً وأمكنةً وأسلوبًا كتابيًا ينسج كل ذلك، ويرفع من قيمة تلقيه في المنظور الخيالي، وبالطبع نجحت الكاتبة في كل ذلك وبتنا نطالع قصصًا قصيرة متخيلة مكتملة الأركان لا ارتباطَ صريحًا بينها وبين الكاتبة، وهي المواصفات التي يشترط وجودها للتعامل مع القصة كجنس أدبي، يحمل هذه المواصفات وكان بوسع الكاتبة الاقتصارُ على هذه القصص العشر فقط، وإصدارها في مجموعة قصصية، لكنها أرادت بالفعل أخذنا معها لتبيان قيمة الخيال المتذبذبة، وعدم قدرته على إسقاط الحكاية والتقليل من قيمتها في حالة انخفاض نسبته، طالما كان القلم بأَيدٍ إبداعية أمينة، فكان المزج بين هذين النوعين من القصص مقصودًا بالفعل، حتى لا ينظر للقصص الواقعية على أنها عجز عن الخيال وسطحية في التناول، واستخدامها أيضًا في إظهار قيمة قلم الكاتبة وقدرته على منح المروية الواقعية قيمة إضافية اعتمادًا على الأسلوبية لا المتن الحكائي التخييلي، وذلك يشير بوضوح إلى أن هذين النوعين من القصص لم يأْتيا اعتباطًا، وإنما بقرار من الكاتبة بهدف خلق قيمة معينة للعمل.
في هذه القصص العشر الخيالية تم تناول بعض الصراعات الناتجة عن أحداث معينة، تستلزم ردود أفعال مختلفة تخلق لنا حكاية ما، كقصة «جاثوم الحب» التي أتى عنوانها بعيدًا كليًا عن متنها الحكائي، عندما ارتبطت الحكاية بإجراء عملية جراحية لإزالة ورم خبيث من المخ وتسليط الضوء على فترة الإفاقة التي تعقب استعادة الوعي بعد التخلص من تأثير جرعة المخدر الكبيرة، وهي الفترة التي عادة ما يحجز المريض في غرفة مخصصة لهذا الغرض تسمى غرفة الإفاقة ولا يسمح لأقربائه وأصدقائه بالتواصل، خشية تجاوزه في الحديث وفضحه بعض أسراره، والجميل في هذه الحكاية أن الكاتبة لم تنظر إليها من هذه الزاوية، وإنما منحت المريض اللاقط الصوتي، وسمحت له بالتعبير عن الحالة الذهنية والوجدانية التي يعيشها، إلى أن يحين خروجه من هذه الغرفة، وهي بالفعل فترة متخيلة ذات قيمة كبيرة لوقوعها بين عالم الوعي واللاوعي، وبالتالي لا يمكن وصفها بطريقة واقعية ويكون الخيال هو الوسيلة المثلى لدخولها وتوقع المونولوج الداخلي، الذي يدور داخلها وهو حوار مهم جدًا نظرًا لصدقه وتخلصه من كل التأثيرات التي تفسده فيما لو كان في العالم الواقعي، ما يعني أن الكاتبة استطاعت باقتدار امتطاء صهوة الخيال ووصلت بواسطته إلى الأماكن التي يستحيل أن يصل إليها الواقع.
هذه الفكرة التي اعتمدت في صياغة قصة «الجاثوم» تكررت أيضًامع بقية القصص التخيلية، باعتماد الخيال مَرْكبًا يتم الانتقال بواسطته للمناطق التي لا نصلها بأقدام الواقع، رغم حاجتنا لسبر أغوارها، والوقوف على تفاصيلها المغيبة، كقصة «متعة» التي أوقفتنا على المشاعر المتقلبة التي تنتاب المطلَّقة بعد حصولها على صك طلاقها، استطاعت الكاتبة هنا توظيفَ الخيال لفضح الواقعية المزيفة التي تسلط الأضواء على سعادة المطلقة إن تم الأمر وفق رغبتها، أو الحزن والألم إن كرَّسَ ظلمَ الزوج وخذلانه لها، فنجدها من خلال هذه الحكاية تغوص في حادثة الطلاق، وتستظهر المتناقضات التي تحفل بها، عندما تجمع بين النقيضين؛ السعادة والتعاسة، في قلب صاحبته، لتنطلق من لحظة التنوير هذه للأخذ بأيدينا وإطلاعنا على الإحساس الصادق الذي تعيشه المرأة بعد قرار كهذا، وبالطبع استطاع الخيال النهوض بهذه المهمة على أكمل وجه، وهو ينقل المونولوج الداخلي الذي تعيشه امرأة مرت بنفس التجربة وترك له إيصال المشاعر الحقيقية والتأثيرات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية المواكبة، والتشابك المجتمعي مع هذه الحالة، وصولًا لدهشة النهاية الرائعة التي لخصت لنا المعاناة الحقيقية التي تعيشها المرأة وهي تعتقد أنها تخلصت بقرار الانفصال من كل أحزانها وحانت لحظة الفرح التي تنتظرها في وقت قد يحدث فيه العكس.
هذا الخيال قادنا أيضًا لسبر أغوار أحد المواقف المهمة، التي قد يعيشها أحدنا عند وقوع حريق يقضي على كل ممتلكاته المادية، ويستبقي له أرواح عائلته، فمثل هذا المشهد غالبًا ما يوصف من خلال القيمة الإنسانية الثمينة الباقية، ويتم تجاهل الخسائر المادية التي يمكن تعويضها، وهي حقيقة بالفعل، لكن الخسائر المادية لها قيمتها أيضًا، وتأثيراتها الحياتية المهمة، فأراد خيال الكاتبة من خلال قصة «الحريق» أخذنا معه للتعرف على هذا الإحساس الذي ينتاب الإنسان غالبًا عندما تستعيده تفاصيل الحياة وتهزه قيمة مفقوداته المادية، ولا يسمح له الواقع بالتعبير عن هذا الإحساس طالما نجا الإنسان الأكثر أهمية بكثير، وقد أجادت الكاتبة بالفعل في كشفهذا الموقف، مستخدمة مركب الخيال الذي طاف بنا على تلك المشاعر الصادقة التي يصعب التصريح بها.
الخيال أيضًا قادنا في قصة «وجه الليل» ليُجَدِّف بنا وينقلنا لشاطئ شبه مقفر لا تصله مراكب الواقعية بسهولة، عندما حدثنا عن الفراغ العاطفي الذي تعيشه المرأة عند إعطاب شريكها الرجل وفقده للأهلية الزوجية، وكتمها لهذه المشاعر في صدرها إما اعتدادًا بأنوثتها أو تماهيًا مع حيائها أو هروبًا من عقدة ضعفها أو بسبب عدم جدوى الحديث عنها عند غياب الحلول الممكنة، كان الخيالُ وسيلتَنا للدخول لهذه المنطقة المحظورة، واستطاعت الكاتبة باقتدار التعبير عن هذه الأحاسيس المغيبة لأنثى لا يمكن فصلها عن عاطفة جياشة تعد سر حياتها، والجميل أن الخيال قادنا هنا للوقوف على صراع من نوع مختلف عندما وقعت بطلة الحكاية في شراك عاطفة مضطربة غير واضحة المعالم لا تحقق قيمتها المفترضة كأنثى مرغوبة، بسبب تقدم عمر زوجها وعدم قدرته على الحركة وعجزه التام عن ممارسة دوره الإنساني كزوج، في وقت جمعتهما الاهتمامات المشتركة المتعلقة بإبداعاتها الكتابية التي تحيله إلى صديق مقرب لا يمكن الاستغناءُ عنه، ولعجز الواقع عن إظهار هذه المشاعر؛ أتى الخيال ليعبر بصدق عن إحساس هذه الأنثى، التي جربت المشاعر الحقيقية بوجود زوج سابق وأبناء أحبتهم، قبل أن يقضي الموت عليهم جميعًا ويغيبهم من حياته أو تستبدل بهم هذه الحياةَ البائسة.
الخيال أيضًا نقلنا معه إلى منطقة وعرة عادة لا يطرقها الواقع عند وقوفه على انجذاب أنثى محافظة لشاب يستهويها، ولا يرتبط معها بعلاقة،ولا يمكنها الإفصاح عن هذه المشاعر لأي سبب كان، وهو إحساس موجود بالفعل تشعر به أغلب الفتيات؛ لكنه لا يظهر عادة للعلن؛ انسجامًا مع فسيولوجية الأنثى المتمنِّعة رغم رغبتها، وكذلك استحالة مبادرتها بإبداء مشاعرها حفاظًا على كرامتها، خشية أن تُصْدمَ بشاب قد لا يقيم وزنًا لمشاعرها، أو تحسبًا لأي ظرف لا يسمح لهذه العلاقة بالنضوج والوصول إلى النهاية الطبيعية المرتقبة، أتى الخيال هنا ليصطحبنا معه ويقول كلمته، بعد أن تجرد من كل المحاذير المعيقة عن الإفصاح ، وأطلعنا على تلك المشاعر المغيبة التي تعيشها الأنثى في كل حين وتحترق بداخلها، في رحلة ماتعة قضيناها مع قصة «رسائل كوب الشاي».
في قصة «عُطب أمومي» كان الخيال مضمرًا داخل النص، عندما اكتفت الكاتبة بسرد حكاية كاملة عن الإشكالية التي تعاني منها تلميذات المدارس، وهي التي تقودنا في نهاية الحكاية لمعرفة أن سوء الوالدين أو الأم تحديدًا يتسبب في السوء الكبير الذي نراه من هؤلاء التلميذات ونحاسبهن عليه بينما الأَوْلى محاسبة الأم والأب فالأبناء نتاجهم السيِّئ أو الجيد.
الخيال في قصة «هرة» أخذ بعدًا مختلفًا عندما ترك لنا متابعة حكاية واقعية اعتيادية عن أصحاب القناعات المتفلِّتة، ممن يروجون للنسوية، أو ممن يتصادمون مع المجتمعات المحافظة في قناعاتهم السلوكية البعيدة عن أي ضابط أخلاقي أو ديني، لنجد الخيال قابعًا يترصدنا في قفلة الحكاية المدهشة حتى يوصل لنا الرسالة أو العمق الذي تستهدفه هذه الالتقاطة، عندما بين لنا أن هؤلاء المنحازين لأفكارهم الشاطحة غير الواقعية عادة ما يسقطون في أول المنعطفات، ويتخلون عن هذه القناعات، ويمكننا اكتشاف ذلك من خلال مراقبة سلوكياتهم الواقعية بعيدًا عن تنظيرهم، وأتى الخيال ليطلعنا على هذه التناقضات من خلال قفلة الحكاية، متوقعًا قدرتنا على الغوص في أعماق النص، وعقد مقارنة بين هروب بطلة الحكاية من الإشكالية التي تعاني منها إناث القطط في انشغالها بالذكور، وجَلَدِها في البحث عنهم ومعاشرتهم بدون أي ضابط، مما دفعها لاستئصال رحم قطتها المسكينة التي كانت تمارس الحياة بالفطرة التي خلقها الله عليها، في وقت قاتلت من أجل قبول هذه التصرفات البوهيمية من الفتيات وتحريضهن عليها رغم أنها منافية للفطرة، وكأن الخيال يريد إفهامنا أن أصحاب الأفكار التصادمية يعودون عنها إذا تماسَّت مع مصالحهم.
وفي قصة «مونامور» أو الحب العميق والرومانسية اللطيفة، نجد أننا في منطقة محرمة يصعب أن يسردها لنا الواقع السيري، فذهبت الكاتبة باتجاه الخيال كي تطلعنا على واحدة من قصص الحب العذري عند بداية نشأتها في قلب طفلة ترى في أحد أقاربها حلمها المستقبلي، وتصف لنا ذلك الشعور الذي عادة ما يلازمها إلى أن يُقضى عليه فيموت أو يدفن حيًا، عندما تقودنا تصاريف الحياة لاختيار البديل الممكن بدلاً من المستحيل المتاح.
وأيضًا في قصة «سلام أمي» يأتي الخيال مضمرًا، فيترك للمتلقي الوصول إليه، مع متابعته لحكاية واقعية اعتيادية، تخبرنا عن النزاعات المذهبية التي يزرعها ويقودها الكبار، ويقع في حبائلها الصغار، وكانت فلسفة الكاتبة عميقةً جدًا، تتخطى المشهد الموصوف فأركان هذا المشهد وهم الأطفال والأمهات؛ يمكن اعتبارهم المجتمع بكل مستوياته، إذ إن المرجعيات الدينية يمكن أن تكون هي الأم المحرضة، والأطفال يمكن أن يكونوا الأتباع بكل مراحلهم العمرية، وهذا ما لا يمكن الإفصاح عنه بالحكايات الواقعية،ويكون الخيال منقذًا لنا من هذه الإشكالية ويمكنه قيادة المشهد للمستهدفات الفهمية من دون أي محاسبة.
وأخيرًا في قصة «المشهورة» تأخذ الكاتبة بأيدينا لتطلعنا على الفرق بين المظهر والجوهر، وتطلب منا عدم الاغترار بالزخرفات الشكلية، التي يلجأ لها البعض مخفيًا الحقيقة التي يعلمها بعض القريبين منه، وكأنها تريد لنا عدم الاحتكام للواقع المشاهَد، الذي عادة ما يخفق في إظهار الصورة كاملة، وأن علينا استكمالها بأنفسنا، من خلال إشغال الخيال، وتوظيف قدراتنا العقلية، لاستكمال النواقص التي لا تكتمل الاستفادة الحقيقية بدونها، وهذا جانب مهم من المعرفة الإنسانية لا ينهض به الواقع المزيف عمدًا، ويأتي الخيال ليفضحه ويعيد ترتيب المشاهد بشكل صحيح ومقنع.
وخلاصة القول: إن أهم ما يمكن التقاطه من هذه المجموعة القصصية خلاف قيمتها الكتابية وأسلوبيتها الرائعة وتشويقها وإثارتها ومتعتها، هو مقاربتها بين الخيال والواقع، في تلقي المشاهد اليومية، وتقريرها بأن استفادتنا الحقيقية تقتضي هذه المزاوجة الإبداعية بين الخيال والواقع، وأنه وحده القادر على إعادة رسم المشاهد الواقعية بما يتناسب مع مستهدفاتها الفهمية.