رقية نبيل عبيد
مراعي الفردوس شاسعة، مراعي الفردوس قطعة من الجنة، مراعي الفردوس أرض خصبة حبلى بالخيرات ممتدة تحت أديم السماء ملء النظر، في جنباتها تنساب الأنهار محدثة أصوات خرير لا تنقطع، في سمائها تطير القبرات والنسور وتحلق كل أنواع الطيور، على أرضها عاش أناس مختلفون، وحكايتهم، حياة هؤلاء الأناس، قصصهم المدهشة التي وقعت وشهدت عليها يوما هذه الأرض، هي عمل شتاينبك معك هنا، إنه يروي ما رأى، يحكي ما عاشه معهم، يقص القصص بأسلوبه الفريد وقلمه المتأني وخبرته اللا متناهية كحكاء حذق يجيد نسج الخيوط تحت ضوء القمر!
شخصيات كثيرة من الريف الأمريكي القديم يوردها لك شتاينبك، كلما تعمقت مع شخصية وحفظت ملامحها يدير لك عجلة المسرح ويعرض لك حياة أخرى وجزءا جديدا من مراعي الفردوس، وشخصيات شتاينبك لا تدري أتحبها أم تشفق عليها، كلها يختلط فيها الغباء الفطري الطبيعي مع المكر والدهاء مع طيبة وحب طبيعي للحياة وانغماس في ظروفها، لا تدري أكان شتاينبك يحب هذه الشخصيات التي كان بلا شك قد قابلها وعاش وإياها ورفع يده مرحبا بها في أكثر صباحات حياته أم هو كان يكن لها بغضا وإشفاقا عليها وخوفا وسخرية خفية منها.
وهو إلى ذلك يقدم شخصيات غاية في الإنسانية، أفعالها ومواقفها كفيلة بجعل الدموع تنفر من عينيك، خذ «تولاريشيتو» على سبيل المثال، طفلا لقيطا وجد في ليلة بهيمة الظلمة على حافة طريق زراعي، أخذه المزارع جوميز معه إلى بيته، كان الطفل غريب الهيئة رأسه مربعة كبيرة تستند إلى جسد وأطراف ضخمة حتى اتفق على تسميته هذا الاسم الغريب الذي يعني الضفدع الكبير! تولاريشيتو يكبر ليصبح الذراع الأيمن للمزارع في مزرعته، كائنا حرا غريب الطباع لكنه طيب ويمتلك صبرا وحنوا هائلا للحيوانات، يمسح ضرع البقرة بعطف ويحلبها بأسرع مما يستطيع أي غيره، ويدرب الأحصنة الجامحة وكلاب الحراس في غير عناء، لديه قدرة بديعة على الرسم، في يوم طلبت منه مدرسة الصف وهو في الحادية عشرة من عمره بعد أن يرسم على السبورة ما طاب له، فأمضى الليل يرسم حيوانات المزرعة وطيورا لا تحصى تحلق فوقها، أصاب الرسم المعلمة بالذهول، وأكدت للطفل أنه إنما حظي بموهبة بديعة، لكن فور أن تحرك التلاميذ لمسح اللوح حتى هاج تولاريشيتو، وكان يوما مشهودا جرح فيه الجميع إثر هذه الغضبة العارمة التي صدرت من الطفل بعد أن رأى عمل يديه يخرب ويمحو، هكذا قرر المزارع أنه لن يبقيه في المدرسة إلا ما يفرضه عليه القانون ثم سيحرره من هذا السجن الذي لن يفيد منه شيئا، فقد وهب تولاريشيتو مواهب عظيمة بين يديه لكن أحدها لم يستطع اختراق عقله!
وشتاينبك بارع في جعلك تتعلق بشخصية ببضعة أسطر فحسب! فتجد روحك وقد اشرأبت إليها وتعلقت بأطراف حكايتها والتحمت بذرات الأحاسيس منها، وإذا بك تذوق وحدتها وتطرفها وخوفها ونزوعها إلى آمال بعيدة معلقة بين طيات الغد، آمال ما كان لها أن تتحقق ولا أن تشهد طلوع شمسها!
وبغير عناء، تستطيع أن تدرك أن هذه القصص إنما هي حكايات اقتبست على عجالة من قلب الواقع، نعم لا شك أن هذه حكايات قد وقعت يوما تحت أديم السماء، لا شك أن هذه أرواح قد تنفست وسارت وعاصرت يوما هذه الحياة الدنيا، لا شك أنهم وجدوا قبل مائة عام وأكثر وملؤوا الهواء صخبا وأصواتا وقصصا وفصولا، ما فاتهم أنه كانت هنالك أذن تصغي وعين تتتبع باهتمام، وقلم أوتي موهبة وبراعة لا مثيل لها، ما كان لهم أن يدروا أنه وبسبب منهم سوف تخلد حكايات هؤلاء القوم وسيعرف باسمهم وقصصهم أجيال عاشت بعد قرن من رحيلهم، هذه الفصول السريعة غير المكتملة، هذه الحكايات المبتورة نهاياتها، نتعلق بهم لنتركهم آخرا دون أن ندري عن مصائرهم شيئا، وترحل كل شخصية تاركة خلفها مذاقا مريرا في حلقك، تتعجب من انقطاع خبرها المفاجئ. وتضطر رغما عن إرادتك إلى تركها في رحلتها المجهولة والانتقال للشخصية التالية وساكن مراعي الفردوس الجديد الذي لا تدري عنه شيئا.
وأنا أقرأ كانت هذه العبارة ترن عاليا في أذني «فن القصة القصيرة»، في كل حكاية كانت الأحداث تتوالى على عجل مع قليل من السرد وقليل من التفاصيل، فلا مجال لكثير من الوصف الدقيق، ولا فسحة لسرد مطول يتناول بالتحليل والتقطير مشاعر البطل واعتمالات نفسه، ورغم ذلك لا ينقص هذا من جمال القصة شيئا وتخرج في أبهى حلة لها، شاهدة أبدية على براعة شتاينبك وعلى آثار أنفاس الحياة في قلمه، شتاينبك ساخر حزين، يحكي آثام أبطاله على الملأ دونما خجل، كل بطل يطوي بين ضلوعه ماض يتعذب بذكراه المسمومة أو أحلام يكتوي بنيرانها ويراها تتسرب كماء بين أصابعه دون أمل في تحقيقها!
حياة شتاينبك هي الأخرى تثير العجب، فمن الريف والمراعي الخضراء، إلى المال والشهرة ونجومية هوليوود وفسادها، زواج فطلاق وزواج فطلاق، ما بين سعيه لإرضاء النقاد ومحاولاته لإثبات وجوده وقلمه وقوة كلماته، وفي نهاية المطاف ينتصر الرجل الريفي على رجل المدينة في صدر شتاينبك، وتصبح أجمل قصصه وأفضل رواياته تلك التي خلدت اسمه بحق هي التي استقاها من حياة الناس البسطاء في قلب ريف أخضر ساحر لا تذبل قط براعمه ولا يجف الربيع من أشجاره السامقة قط.