سراب الصبيح
بعث الله نبيه رحمة للعالمين، وجمله بالخُلق الذي يتناسب مع هذه المهمة الإلهية العظيمة؛ فلينه ليصبر على الدعوة وليكون منارة لا يضل عن هداها السائل، فكان حنونا، كبير القلب، لين الأخلاق، سهل المعشر، ففاضت سيرته -صلى الله عليه وسلم- بالقصص التي تتجلى فيها هذه الصفات؛ مما جعل بعضهما يغفل جانب القوة به، وأي قوة هي قوة الرسول! تلك التي تتفوق على رموز القوة في التاريخ الإنساني كعمر بن الخطاب وخالد بن الوليد -رضي الله عنهما-.
إنها لكثيرة المواقف التي ينجلي بها سطوع قوة نبينا كإشراق الشمس في رائعة النهار. أذكر منها موقفا مع أبي جهل -على الرغم من أن إسنادها منقطع- ولا أذكرها إذ يندر غيرها، فسيرته مليئة بالشواهد في المعارك وغيرها؛ لكن لقرب هذه القصة من نفسي، كما أنها تبين قوته في مجريات الحياة اليومية.
ورد في السيرة النبوية أن رجلا من إراش (وقيل: إراشة) جاء إلى مكة ببعير له، فاشتراه منه أبو جهل، ثم ما لبث أن ماطله بدفع الثمن، فجاء الإراشي إلى مجلس من قريش يقصد من يعينه على نيل حقه، فأشاروا مازحين إلى النبي صلى الله عليه وسلم؛ لعلمهم بالعداوة بينه وبين أبي جهل، فتوجه الإراشي للنبي صلى الله عليه وسلم فقام معه إلى بيت أبي جهل وطرق الباب، فخرج مذعورا، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يرد الحق إلى صاحبه، فاستجاب أبو جهل فورا.
إن مواجهة العدو لا تكون صعبة إلا على الضعيف، أما القوي فلا يتوارى من عدوه خشية المواجهة؛ وهذا ما حدث مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-. كما أن ذهابه إلى أبي جهل لم يكن لمسألة تخصه معه، فالضعيف حتى في هذا الجانب يهرب، فكيف بالرسول الذي ذهب إليه لمسألة تخص رجلاً غيره، ولا تقف قوته على هذا الحد، بل في النتيجة حيث أعطى أبو جهل الرجل ماله.
فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يحل حنان قلبه ورأفته دون القوة على الحق. بل كفى به قوة أن تحمل جهاد الدعوة مع كل ما لقيه من الأذى، فلو اجتمع الناس على الهدى لما استطاع رجل أن يحتمل الدعوة لقوة تلقي الوحي في ذاته، فكيف بالرسول الذي تلقاه وتلقى الأذى؛ وهذا لعمري لن يتصدى له إلا قوي، كما كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- قوياً.
النبي صلى الله عليه وسلم هو الحمل الوديع، الحنون على أزواجه وبناته وبنيه وأصحابه والمؤمنين، الرحيم بهم وبالمشركين حتى يأمنوا، الصبور، الذي جمله الله بالخُلق العظيم؛ هو في ذات الوقت القوي على الحق، الظاهر عليه.