مرفت بخاري
كانوا كُثر.. أولئك الذين مروا في حياتنا، ألقوا كلماتهم ومضوا، كما لو أن الأمنيات تكفي لتغيير واقعٍ يثقله التعب. بعضهم ظن أن حضورهم وحده يمنح الفرح، وآخرون اكتفوا بابتسامة عابرة ظنوا أنها تكفي لترميم ما تكسر. لكن السعادة، تلك التي يبحث عنها الجميع، لم تكن يومًا وعودًا تُقال، بل أفعالاً تُعاش، تُبنى بصدق، وتتجلى في تفاصيل لا يلتفت إليها إلا القليل.. القليل جدًا.
ثمة كلمات تولد خفيفة كريش طائر، تتراقص في الهواء قبل أن تختفي، وثمة مشاعر أثقل من أن تُحمل على الألسنة، فلا تجد طريقها إلا في الأفعال. بين هذين العالمين، يعيش البعض وهم يظنون أن الأماني تكفي، وأن النوايا الصامتة قادرة على تغيير مصائر الآخرين. لكن هل تكفي النسائم وحدها لتمتلئ قلوبنا بالدفء؟
لا قيمة للنجوم إذا لم تهدِ التائه، ولا جدوى من النور إن لم يبدد العتمة. المشاعر التي لا تجد طريقها إلى الفعل، تشبه الأبواب المغلقة في وجه من ينتظر الدخول. ما نفع الكلمات التي تُلقى كأمنيات عابرة، إن لم تمتد يدٌ تمسك بك حين توشك على السقوط؟ ليس كل ما يُقال يُعاش، وليس كل من تمنّى لك الوصول، مهد لك الطريق.
فالبحر لا يغتر بوعود الغيم، إن لم يهطل مطرٌ يملأ جوفه نحن أيضًا، لا يجب أن نمنح قلوبنا لمن يجيد الوصف ولا يعرف الفعل، لمن يزين الكلام ولا يبني جسرًا. فالعلاقات الحقيقية لا تُقاس بالحديث المعسول، بل بما يبقى حين ينتهي الكلام. لم تكن القمم قبلة لمن يخشى الصعود، وبعض الأبواب لا تُفتح لمن يجيد الطرق بالكلمات، وبعض الطرق لا يُمهدها سوى من يسيرها بصدق. ليس كل من وقف عند العتبة يستحق العبور، فالمكان يُمنح لمن يملأه سعادة وسكينة وطمأنينة، لا لمن يتمنى أن يكون فيه.
«وما نيل المطالب بالتمني
ولكن تُؤخذ الدنيا غِلابا
وما استعصى على قومٍ منالٌ
إذا الإقدام كان لهم ركابا»
ربما لم تكن الحكايات تُكتب لتُفهم من أول قراءة، وربما كان على البعض أن يظلوا مجرد عابرين، لا أبطالاً في الرواية. ليس كل غياب يحتاج لتفسير، ولا كل حضور يستحق الاحتفاء. فالعلاقات لا تُبنى على النوايا وحدها، بل على ما يثبتها من أفعال.
فالكلمات تملأ الفراغات، لكن الأفعال وحدها هي من تشيّد الجسور، وهي التي تجعل البقاء مستحقًا، والانتماء حقيقة لا مجرد وهم. لا يكفي أن يُقال لنا ما نحب سماعه، بل إن نشهد ما يؤكد صدقه، ونراه رأي العين. عندها فقط، يصبح الاحتفاء بهم منهجًا لا غبار عليه، والمحافظة على وجودهم دَيدَنًا لا حياد عنه، واحتواؤهم وسعادتهم غاية لا تقبل التأجيل. فالحياة ليست وعودًا تُقال، بل حقائق تُثبت، ومن كان جديرًا بها، لم يحتج إلى صوتٍ مرتفعٍ ليُسمع، بل إلى أثرٍ عميقٍ ليبقى.