د. داليا عبدالله العمر
تعد المملكة العربية السعودية رائدةً في مجال الابتعاث التعليمي، حيث تبنت منذ عهد الملك عبد العزيز رؤيةً تقوم على الاستثمار في بناء الإنسان السعودي. بدأت أولى البعثات عام 1927 بإرسال أربعة عشر طالبًا للدراسة في مصر، وتوالت بعدها البعثات إلى أوروبا وأمريكا، مما أسهم في نقل العلوم والمعارف الحديثة إلى المملكة.
في عام 2005، أطلق برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، الذي اعتبر أكبر مشروع ابتعاث في تاريخ المملكة، حيث وجه في بدايته إلى الولايات المتحدة، ثم توسع ليشمل مختلف الدول المتقدمة في أوروبا وآسيا وغيرها، وارتفعت أعداد المبتعثين السعوديين تحت مظلته لتصل إلى ما يقارب مئة وخمسين ألف طالب وطالبة حول العالم.
تستمر المملكة في دعم الابتعاث كخيار استراتيجي لتنمية رأس المال البشري، متماشيةً مع رؤية 2030 الهادفة إلى بناء اقتصاد قائم على المعرفة. ينتظر أن يبتعث البرنامج المحدث نحو سبعين ألف طالب وطالبة إلى أبرز الجامعات العالمية بحلول عام 2030.
أسهم المبتعثون العائدون في دفع عجلة التنمية عبر تولي مواقع قياديةً في المؤسسات الأكاديمية والقطاعين الحكومي والخاص، ونقل أفضل الممارسات العالمية إلى المملكة. كما رفدت برامج الابتعاث الجامعات السعودية بكوادر من حملة الدكتوراه، مما أثرى البحث العلمي وأسهم في استحداث تخصصات وبرامج أكاديمية جديدة محليًا.
تجسد مسيرة الابتعاث السعودي إيمان المملكة العميق بأهمية العلم كقيمة إسلامية وحضارية، مستندةً إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له به طريقًا إلى الجنة».
على الرغم من النجاحات الكبيرة التي حققتها برامج الابتعاث في المملكة العربية السعودية، إلا أن هناك بعض التحديات التي تواجه المبتعثين وتؤثر على أدائهم الأكاديمي وراحتهم النفسية.
أحد أبرز هذه التحديات يتعلق بالجوانب المالية، حيث إن جودة حياة المبتعث وتفرغه للدراسة في الجامعات المرموقة تتطلب استقرارًا ماليًا يضمن له التركيز على تحصيله العلمي. فيما يلي أبرز هذه التحديات:
1 - التحديات المالية في بعض دول الابتعاث:
- في دول مثل المملكة المتحدة، يتلقى المبتعث الأعزب مكافأةً شهريةً تبلغ حوالي ألف وأربعمئة وعشرين فاصلةً ثلاثين جنيهًا إسترلينيًا، ويتم تحديث هذا المبلغ كل ثلاثة أشهر حسب سعر الصرف. نظرًا لارتفاع تكاليف المعيشة في المدن الكبرى مثل لندن مانشستر وغيرهم، حيث تتجاوز إيجارات الشقق ذات الغرفة الواحدة أو الاستوديو هذا المبلغ، يواجه المبتعث صعوبةً في تغطية نفقات السكن، مما يترك هامشًا ضيقًا لتلبية الاحتياجات الأساسية الأخرى مثل الطعام والملابس.
2 - الفرق بين المبتعث الأعزب والمبتعث مع أسرته:
- يلاحظ أن المبتعثين المتزوجين أو الذين يرافقهم أفراد من أسرهم يحصلون على مخصصات إضافية لكل مرافق، مما يسمح لهم بتقاسم تكاليف السكن والمعيشة، ويجعل الوضع المالي أكثر استقرارًا مقارنةً بالمبتعث الأعزب الذي يتحمل جميع النفقات بمفرده مما يوجب إعادة النظر في وضعه.
3 - إلغاء مكافآت التميز أو الدروس الخصوصية:
- وفقًا للملحقية الثقافية السعودية في المملكة المتحدة، لا تصرف مكافأة التميز أو الدروس الخصوصية للمبتعثين في بعض المراحل مثل الدكتوراه. هذا الإلغاء قد يؤثر سلبًا على طلاب الدكتوراه الذين يحتاجون إلى دعم إضافي كمكافأة على تميزهم ونشر أبحاثهم في مجلات مرموقة، خاصةً أن الجامعات السعودية والعالمية تقدم مكافآت سخيةً لمنسوبيها تصل إلى خمسين ألف ريال عند النشر في مجلات ذات تصنيف عال.
4 - قيود على الرحلات العلمية لطلاب الدكتوراه:
- يتطلب نظام الدراسة البحثي في المملكة المتحدة من بعض طلاب الدكتوراه نشر عدة أبحاث للحصول على الدرجة. تمنح حاليًا رحلة علمية واحدة فقط خلال فترة الدراسة عبر نظام «سفير 2»، مما قد يعيق جمع البيانات اللازمة للبحث. هذا الوضع قد يدفع بعض الطلاب إلى السفر دون إذن مسبق، مما يسبب مشكلات مع وزارة التعليم.
وعلي ضوء ما ذكر اقترح التالي:
1 - تشكيل لجنة متخصصة لدراسة تكاليف المعيشة:
- تقترح تشكيل لجنة من شؤون الابتعاث لدراسة أوضاع السكن في المدن الكبرى لدول الابتعاث، مثل المملكة المتحدة، وإيجاد حلول لمشكلة عدم كفاية المكافأة لتغطية تكاليف السكن. يمكن أيضًا للوزارة الاستثمار في عقارات بهذه الدول وتوفيرها للمبتعثين بأسعار مناسبة، مما يعد استثمارًا ناجحًا ويزيد من أصول وزارة التعليم الخارجية.
2 - توفير فرص عمل جزئية للمبتعثين:
- يمكن للسفارات السعودية في دول الابتعاث التعاون مع جهات الابتعاث لتوفير وظائف بسيطة للمبتعثين، مثل وظائف إدارية أو تدقيقية في سفاراتها الممتدة حول العالم بدلًا من الاستعانة باليد العاملة الأجنبية، أو تسهيل فرص العمل عبر الإنترنت أو بدوام جزئي، مما يساعد المبتعثين في تغطية نفقاتهم المتزايدة.
3 - إعادة صرف مكافآت الدروس الخصوصية لطلاب الدكتوراه:
- يقترح إعادة صرف مكافآت الدروس الخصوصية لطلاب الدكتوراه، وربطها بالنشر العلمي في مجلات ذات تصنيف عال، مما يشجع الطلاب على الإسهام في البحث العلمي ويعزز مكانة المملكة في المجال الأكاديمي.
4 - زيادة عدد الرحلات العلمية المسموح بها:
- يقترح السماح بما يصل إلى خمس رحلات علمية لطلاب الدكتوراه خلال فترة دراستهم، بناءً على احتياجات البحث وموافقة المشرف الأكاديمي، مع تقديم الأدلة اللازمة، لتسهيل جمع البيانات وإجراء البحوث الميدانية.
5 - الاستعانة بالخبرات الشابة لمراجعة السياسات:
- تأكيدًا على توجه القيادة الرشيدة بقيادة سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان نحو تمكين الشباب والمرأة، يقترح الاستعانة بالكوادر الشابة من الجنسين لمراجعة السياسات الحالية ووضع سياسات.
إن مسيرة الابتعاث السعودي تعد ركيزةً أساسيةً في بناء مستقبل المملكة وازدهارها، ومع تذليل التحديات التي تواجه المبتعثين، سيستمر هذا البرنامج في تحقيق أهدافه الطموحة وتخريج كفاءات وطنية مؤهلة لقيادة مسيرة التنمية الشاملة.
نتقدم بخالص الشكر والتقدير إلى قيادتنا الرشيدة، حفظها الله، على دعمها السخي لبرامج الابتعاث، وإيمانها العميق بأهمية الاستثمار في الإنسان السعودي. كما نثمن جهود وزارة التعليم والملحقيات الثقافية في تسهيل مهمة المبتعثين وتقديم الدعم اللازم لهم.