د.عبدالله بن موسى الطاير
اشتهر عن رئيس وزراء بريطانيا الأسبق تشرشل قوله: «يمكن الاعتماد دائمًا على أمريكا للقيام بالشيء الصحيح، بعد استنفادها جميع الاحتمالات الأخرى». ربما يكون هذا مدخلا لقراءة أكثر هدوء لما بعد «تحرير أمريكا» الذي وافق الثاني من أبريل 2025م. فهل ستسلك أمريكا طريق التجريب إلى أن تستنفد جميع البدائل، أم أنها ستتراجع قريبا عن نهجها الجديد في الهيمنة والانعزال على اعتبار أنهما السبيلان الأمثلان لتحقيق المصالح الأمريكية.
تاريخيا تعاملت القوى العظمى مع الدول الأضعف بأساليب تُعطي الأولوية لمصالحها من خلال فرضها بقرارات أحادية عامدة إلى إخضاع الدول الأضعف بالقوة، أو بالتفاوض والدبلوماسية. وفي بعض الحالات، استخدم نهج هجين يجمع بين الإكراه والتفاوض. لطالما استُخدمت الأحادية والإرغام سبيلا لفرض الدول القوية مصالحها على الآخرين عن طريق السعي إلى تحقيق أهدافها بشكل مستقل، متجاهلةً في كثير من الأحيان ردود فعل المجتمع الدولي أو اتفاقياته، وممعنة في فرض السيطرة على الدول الأضعف، وإجبارها على الانصياع لإرادتها.
فرض الإرادة والمصالح على نحو منفرد، وإملاء الشروط والاستئثار بالقرار يؤدي في نهاية المطاف إلى حروب عسكرية أو تجارية، حيث تضطر الدول المستهدفة، مهما كانت ضعيفة، إلى الرد مما يدفع بتطور المواقف إلى المواجهة الحتمية بغض النظر عن الربح والخسارة.
تُشير الرسوم الجمركية التي أقرتها الإدارة الأمريكية مؤخرا إلى تحول فلسفي يجنح إلى القومية- بعيدًا عن التعددية. يتأسس هذا التحول الحاد على أصداء الإحباط المحلي من سلبيات العولمة حيث يبرر قادة هذا التحول قراراتهم باستغلال دول العالم للولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقود، وقد حان الوقت لجعل مصالح أمريكا أولا وقبل كل شيء. المنتقدون لهذا النهج يدفعون بأنه يُخاطر بعزل أمريكا في وقتٍ تتطلب فيه التحديات العالمية التعاون والتنسيق. ويتوجس المعارضون من تراجع أمريكا عن دورها كراعٍ للتجارة العالمية المفتوحة، بما يعطي دولا أخرى كالصين الفرصة لإعادة تشكيل النظام العالمي بطرق تُقوّض نفوذ الولايات المتحدة. ويستدل هؤلاء إلى أن قوة أمريكا كانت ولا تزال بقدرتها على تجنيد حلفائها في الدفاع عن مصالحها دون تدخل مباشر منها، ويضربون أمثلة بالحرب على الإرهاب.
التاريخ خير معلم، إذ يقدم وجهة نظره في تقييم هذا النهج القسري لتحقيق المصالح، ويرصد تأرجح القوى العظمى بين الإكراه والتعاون. لقد فرضت الإمبراطوريات الاستعمارية إرادتها الاقتصادية بالقوة، فاستنزفت الثروات لكنها في الوقت ذاته زرعت بذور الاستياء وعدم الاستقرار. إفريقيا خير مثال، فالمستعمر أمعن في استخدام القوة لتحقيق مصالحه على حساب الدول المغلوبة على أمرها، فأصبحت الدول الأقل نموا عالة على المجتمع الدولي بما فيه الدول التي استعمرتها ونهبت خيراتها. إذا كانت أوروبا تعاني تبعات الهجرة الشرعية وغير الشرعية، فما ذلك سوى نتيجة حتمية لما سبقت به. عندما يُقارن ذلك بخطة مارشال الأمريكية بعد الحرب العالمية الثانية، التي أعادت بناء أوروبا من خلال المساعدات والتفاوض، ضامنةً بذلك الرخاء والولاء، فإن الكفة تميل لصالح التفاوض والتعاون والبناء المشترك. يخشى المناوئون من أن المرونة المفرطة في استخدام القوة ربما تحقق مكاسب فورية على حساب النتائج المستدامة. وعلى عكس أيام الاستعمار، فإن عالم اليوم مترابط للغاية بحيث لا تستطيع دولة واحدة الهيمنة دون عواقب وخيمة. القوى التي تتجاوز بقراراتها حدودها بالقوة تتمتع بهيمنة مؤقتة قابلة للزوال؛ أما القوى التي تبني مصالحها على أساس التحالفات فإن نفوذها مستدام.
سجل التاريخ سوابق تحذيرية للنتائج الوبيلة لنهج الهيمنة الأحادية؛ شهدت حروب الأفيون في القرن التاسع عشر اقتحام بريطانيا للأسواق الصينية بالقوة، تاركةً وراءها إرثًا من المرارة والاضطرابات. وفي أمريكا، بدا مبدأ مونرو كدرعٍ للأمريكيتين، لكنه تحول إلى ذريعةٍ للهيمنة على أمريكا اللاتينية، مُغذّيًا مشاعر الاستياء والاضطراب. تكشف هذه السوابق عن نمطٍ مُتسق؛ فالأحادية والهيمنة قد يُحققان مزايا عابرة، لكنهما غالبًا ما يبذران خلافا طويل الأمد، مُقوّضين بذلك الاستقرار الذي يسعيان إلى تأمينه.
وبينما تتمتع الدول القوية بالجرأة لفرض إرادتها، فإنها نادرًا ما تُحقق بمثل هذه الإجراءات نجاحًا دائمًا. على العكس، فإنها تُثير المقاومة، وتُمزّق التحالفات، وتُشجّع على شنّ ردود فعل مُضادة وخطيرة. في الاقتصاد العالمي المُتشابك، لا تكمن القوة الحقيقية في الهيمنة، بل في الدبلوماسية، وبناء حلولٍ تحترم سيادة ومصالح جميع الأطراف، كبارًا وصغارًا. إن فرض المصالح هو مقامرة ذات أخطار عالية ومكاسب محدودة، وهي قفزة في المجهول تُخاطر بتفكيك النظام العالمي. ويبقى التعاون، لا الإكراه، هو الطريق الضامن للازدهار والسلام.