د. علي معاضة الغامدي
في خضم التغيرات المتسارعة التي تشهدها مؤسسات التعليم العالي، يبرز نقاش حيوي حول دور أعضاء هيئة التدريس الذين تجاوزوا الستين عامًا. فبينما تتجه بعض الجامعات نحو التخلص التدريجي من هؤلاء الأساتذة بحجة «تجديد الدماء» و»إفساح المجال للشباب»، يرى الكثيرون أن هذا التوجه لا يمثل خسارة فادحة للجامعة فحسب، بل يعد هجومًا مباشرًا على جوهر العمل الأكاديمي وقيمته الحقيقية.
إن الحديث عن «تجديد الدماء» يبدو للوهلة الأولى منطقيًا، لكنه غالبًا ما يغفل حقيقة دامغة: أن العمل الأكاديمي ليس وظيفة روتينية ذات مهام محددة تنتهي صلاحيتها بتقدم العمر. بل هو مسيرة من البحث والتفكير العميق والابتكار المستمر، تتراكم فيها الخبرات وتترسخ المعرفة بمرور السنين. فالأستاذ الجامعي في مرحلة ما بعد الستين، وخاصة أولئك الذين حافظوا على شغفهم بالبحث العلمي والتدريس، يمتلكون رصيدًا هائلاً من المعرفة المتخصصة والرؤى الثاقبة التي لا يمكن تعويضها بسهولة. فعلى سبيل المثال، يمتلك الأستاذ الذي قضى عقودًا في تدريس مقرر معين فهمًا عميقًا لتفاصيله الدقيقة، وتطوراته التاريخية، وكيفية ربطه بمستجدات المعرفة، مما يجعله قادرًا على الإبداع في تقديمه وربطه بواقع الطلاب بشكل فريد.
لننظر إلى الواقع، كم من الاكتشافات العلمية المهمة والنظريات الرائدة خرجت من عقول أساتذة تجاوزوا الستين؟ التاريخ حافل بالشواهد على أن سنوات العمر المتقدمة لا تعني بالضرورة تراجع القدرات الذهنية والإبداعية، بل قد تكون فترة نضج فكري وعمق في التحليل لا يضاهى. خذوا على سبيل المثال مسيرة العديد من الحائزين على جائزة نوبل، فكم منهم كانت أبحاثهم وإنجازاتهم العظيمة في أوجها بعد سن الستين؟ إنهم لم يكونوا يجلسون في منازلهم، بل كانوا في مختبراتهم وقاعات محاضراتهم، يواصلون رحلة البحث والاكتشاف بدعم وتقدير من جامعاتهم التي أدركت قيمة خبرتهم وعطائهم.
إن الجامعات التي تسعى للتخلص من أساتذتها الكبار بحجة السن، إنما ترتكب خطأ استراتيجيًا فادحًا. فهي بذلك تتخلى عن كنوز حقيقية من الخبرة والمعرفة المتراكمة، وتفقد قادة أكاديميين قادرين على توجيه الأجيال الشابة من الباحثين والطلاب. فمن الضروري أن يكون في كل قسم أكاديمي أساتذة كبار قادرون على نقل خبراتهم المتراكمة إلى الجيل الأصغر من الأساتذة، وتقديم النصح والإرشاد لهم في مسيرتهم المهنية. فالأستاذ المخضرم ليس مجرد مصدر للمعلومات، بل هو مرشد وملهم، يمتلك القدرة على نقل شغفه بالعلم والمعرفة إلى طلابه، وعلى غرس بذور التفكير النقدي والإبداع في عقولهم.
علاوة على ذلك، فإن العمل الأكاديمي بطبيعته يعتمد على التفكير الريادي والقدرة على قيادة المجتمع نحو آفاق جديدة. وهذا النوع من القيادة لا يأتي بين عشية وضحاها، بل يتطلب سنوات من الخبرة والتجربة في التعامل مع مختلف القضايا والتحديات. فالأستاذ الجامعي الذي قضى عقودًا في البحث والتدريس والإشراف على الرسائل العلمية، يمتلك رؤية شاملة ومعرفة عميقة بتطورات مجاله، مما يجعله مؤهلاً بشكل فريد لقيادة المشاريع البحثية الكبرى والمساهمة الفعالة في خدمة المجتمع. إن التعامل مع الأستاذ الجامعي من منظور كونه مجرد رقم في مسير الرواتب يغفل الدور الحيوي الذي يلعبه في جوانب متعددة تتجاوز مجرد التدريس.
إن المقارنة بين العمل الأكاديمي والعمل في شركة أو مؤسسة تجارية هو قياس خاطئ. فالشركات غالبًا ما تركز على تحقيق أهداف قصيرة الأجل تتطلب جهدًا بدنيًا معينًا، بينما الجامعات هي مؤسسات قائمة على المعرفة والتفكير العميق والابتكار طويل الأمد. وبالتالي، فإن معايير تقييم أداء الأفراد في هذه المؤسسات يجب أن تكون مختلفة. فبدلاً من التركيز على عامل السن، يجب أن يكون التركيز على جودة البحث العلمي، والقدرة على التدريس والإشراف الفعال، والمساهمة في خدمة المجتمع. فالأساتذة الكبار يلعبون دورًا محوريًا في ضبط توصيفات المقررات الدراسية وضمان الجودة الأكاديمية للبرامج، مستفيدين من خبرتهم الطويلة في هذا المجال.
إن التخلص من الأساتذة الكبار بناءً على السن يمثل أيضًا إهدارًا للموارد. فالجامعات استثمرت سنوات طويلة في تأهيل هؤلاء الأساتذة وتطوير قدراتهم، والتخلي عنهم في ذروة عطائهم الفكري هو تبديد لهذه الاستثمارات. بدلاً من ذلك، يجب على الجامعات أن تبحث عن طرق للاستفادة القصوى من خبرات هؤلاء الأساتذة، سواء من خلال تكليفهم بمهام استشارية أو إشراقية أو تدريس مقررات متقدمة أو قيادة فرق بحثية متخصصة. كما أن آراءهم البناءة والمستنيرة تمثل قيمة لا تقدر بثمن في لجان العمل ومجالس الأقسام، حيث يساهمون في اتخاذ قرارات رشيدة ومستنيرة بفضل خبرتهم الواسعة.
هناك العديد من الأمثلة الواقعية لجامعات عالمية مرموقة تحتفي بأساتذتها الكبار وتوفر لهم بيئة محفزة لمواصلة العطاء. هذه الجامعات تدرك أن الخبرة لا تقدر بثمن وأن الحفاظ على جيل من العلماء والباحثين المخضرمين هو استثمار في مستقبل الجامعة والمجتمع ككل. إنهم يوفرون لهم الدعم اللازم لمواصلة أبحاثهم، ويشجعونهم على نقل خبراتهم إلى الأجيال الشابة، ويثمنون مساهماتهم القيمة في تطوير المعرفة وخدمة الإنسانية. وعندما نرى رجالًا تجاوزوا السبعين والثمانين وربما التسعين يطرحون أفكارًا علمية قيمة في مؤتمرات عالمية، فعلينا أن نتساءل: هل يمكن لأستاذ قيل له «تقاعد وليس لك مكان» أن يحضر مؤتمرًا كهذا دون مرجعية أكاديمية مثل الجامعة؟ وهل نقول له فعلاً: ليس لنا علاقة بهذا كله؟! إن هذا التوجه يحرم الجامعات والمجتمع من استمرار مساهمات هؤلاء القامات العلمية. وعلى عكس الصورة النمطية، فإن العديد من الأساتذة الكبار يحرصون على مواكبة أحدث المعارف والعلوم والمستجدات في تخصصهم بدرجة كبيرة، وغالبًا ما يكونون في طليعة الباحثين في مجالاتهم.
في الختام، يجب التأكيد على أن الجامعات التي تتجاهل قيمة أساتذتها الكبار وتفضل التخلص منهم بناءً على السن، إنما تهاجم نفسها وتقوض أسس التميز الأكاديمي. إن الاحتفاء بهؤلاء الأساتذة وتقدير خبراتهم ودعمهم لمواصلة العطاء هو واجب وطني ومطلب أكاديمي ضروري للارتقاء بمستوى التعليم العالي والبحث العلمي في مجتمعاتنا. ومن جهة أخرى، وفي الوقت الذي نقول فيه إن تقدير الأساتذة الكبار ضرورة، إلا أن الجامعات لابد أن تهيئ البيئة الإدارية المناسبة والدعم الأكاديمي الذي يضمن إتاحة الفرصة للجميع للتطور والتميز، ما يضمن وجود هؤلاء الأساتذة الذين يعدون ركنًا أصيلًا في كل قسم أكاديمي. نحن هنا لا نقول للجامعات لا تقاعدوا أحدًا! ولكن يجب أن تكون هناك آليات منطقية تأخذ كل ما طرحناه في الاعتبار بطريقة أو بأخرى. وإذا استمر الأستاذ المتميز في عمله الفكري، يجب أن يستمر بكرامة وتقدير، وليس بتوقيعه على عدم المشاركة في هذا أو ذاك... إلخ! فالجامعة الحقيقية هي تلك التي تقدر قيمة كل فرد من أفرادها وتسعى جاهدة للاستفادة من كامل طاقاتهم وقدراتهم، بغض النظر عن أعمارهم.