نجلاء العتيبي
في زحام المشاعر والجموع التي تفيضُ بها ساحات الحرم، يقف رجال الأمن شامخين، لا بسلاح القسوة، بل بسلاح الصبر واللُّطف.
في كل خطوة يخطونها ينسجون خيوط الأمن والطمأنينة، حاملين على عاتقهم مسؤولية جسيمة تتجاوز حفظ النظام إلى احتواء مشاعر الملايين ممَّن جاؤوا بأرواح متلهِّفة، وأقدام ينهكها السعي بين أروقة القداسة.
ورغم أن مهمتهم ليست سهلة فإنهم يواجهونها بابتسامةٍ تختصر معاني الرحمة، ونظرةٍ تفيض بالتفهم.
في زحام الطائفين والساعين بين مَن أرهقه الطريق أو فقد طريقه، تجدهم حضورًا صامتًا حين يكون الصمت أبلغ من الكلام، وكلمة طيبة حين تحتاج الأرواح إلى السكينة يقفون على مشارف العتبات المقدسة لا كحُرَّاس جُدرانٍ بل كحُرَّاس للطمأنينة يُهدِّئون الفوضى قبل أن تبدأ، ويحتوون التوتر قبل أن يتصاعد.
ليس كل من يعبُرُ تلك الساحات يُدرك أهمية الالتزام بالقوانين، وليس كل من يتعثَّر يُدرك أنه قد يُحدث تعثُّره فوضى تمتدُّ أثرًا إلى أبعد مما يتوقع، ورجال الأمن رغم إدراكهم لذلك، لا يقابلون التجاوز بالتجهُّم، بل بحكمة تليق بمقام المكان، وبصبر يُشبه صبرَ مَن يروي العطشى دون أن يُطالب بشكرٍ أو تقديرٍ، يُعيدون التائه إلى مساره دون تعنيف، ويمنعون التزاحم قبل أن يتحوَّل إلى خطر، يُنظمون، يُرشدون، ويُمارسون فنَّ القيادة دون صُراخ أو استعلاء.
في كل موسم تتجدَّد حكايات اللُّطف تلك التي يرويها المعتمرون بعد عودتهم، عندما يتحدَّثون عن يدٍ امتدَّت لتُعين شيخًا واهنًا على المضيِّ، وعن صوت هادئ منع اندفاع الحشود قبل أن يتحوَّل الاندفاع إلى تدافُع، عن عيون ساهرة تحرس بلا مللٍ، وأقدام تُطارد الفوضى دون أن تُثير الغبار.
لا تُقاس قوة رجال الأمن في هذه المواقف بما يملكونه من سلطة، بل بقدرتهم على التماسك في وجه الفوضى المحتملة، وبمقدرتهم على فرض النظام دون أن يُشعروا أحدًا بأنه مُجبر، إنها قوة اللُّطف، التي تجعلهم قادرين على إيقاف المخالف بكلمة، وعلى تهدئة المرتبك بنظرةٍ، ليس غريبًا أن ترى رجلَ أمنٍ يُمسك بيد طفل ضائع حتى يعود إلى أهله، أو يُنادي المسنَّ بلقب يليق به؛ ليُعينه على الوصول إلى وجهته، أو يتلقَّى كلمات غاضبة بصدرٍ رحبٍ دون أن يرُدَّ الإساءة بمثلها.
إنهم جزء لا يتجزَّأ من نسيج هذه الرحلة الروحية، وحضورهم ليس حاجزًا؛ إنه جسرٌ يصل بين النظام والسكينة، ورغم أنهم يواجهون مشاهد متكررة من التصرُّفات العجيبة والتجاوزات، فإنهم لا يفقدون قدرتهم على احتواء الموقف.
إنهم الوجه الآخر للرحمة في مكانٍ تُرتل فيه الرحمة صباحًا ومساءً، أول من يستقبل الداخلين، وآخر من يُودِّع الخارجين.
وبين هذين المشهدين قصصٌ لا تُحصى عن التحمُّل والصبر والمروءة، هؤلاء الرجال يُقدِّمون نموذجًا فريدًا؛ فالهيبة لا تعني الصرامة، والحزم لا يعني القسوة، إنهم يتركون أثرًا لا يُمحى، ليس عبر عبارات رسمية، بل من خلال مواقف تظلُّ محفورةً في ذاكرة كلِّ من لجأ إليهم يومًا، باحثًا عن طريق، أو طالبًا للعون، أو مستفسرًا ليجد إجابة تسبقها ابتسامة صادقة.
إنهم رجال لا يتصدَّرون المشهد، لكن المشهد لن يكتمل دونهم، لا يطلبون الثناء، لكن أفعالهم تستحقه.
وحين يعود المعتمرون إلى ديارهم قد ينسون بعض التفاصيل، لكنهم لن ينسوا تلك اليد التي امتدَّت أو ذلك الصوت الذي هدَّأ، أو تلك الوقفة التي منعت تعثرًا كاد أن يكون موجعًا، في كل زحام هناك قلبٌ نابضٌ بالحماية، لا يُرى بسهولة، لكنه حاضرٌ بكل تفاصيله حتى وإن غابت الأعين عن رؤيته.
ضوء
قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «مَن لا يشكر الناس لا يشكر الله».