د. فهد صالح عبدالله السلطان
كثر الحديث هذه الأيام عن المشهد الأمريكي والتنبؤ بمستقبل الدولة العظمى بين رأيين متطرفين، أحدهما يرى أن هذه الدولة العظمى تسير نحو التراجع السريع وأن شمسها قاربت على المغيب، والآخر يرى أنها بموقوماتها الاقتصادية وقدراتها العسكرية ودستورها الديموقراطي ستظل الدولة الأقوى لفترة ليست بالقصيرة.
حقيقة، إنها امبراطورية تشغل أحداثها العالم كله شعوبا وحكومات.. يتابع العالم كله تطوراتها الاقتصادية وانتخاباتها الرئاسية وتوجهاتها الأيديلوجية ومغامراتها العسكرية. يتابع مستجداتها بشغف، أستاذ الجامعة ورجل الشارع والتاجر والفقير. وتتأثر معظم المحليات الأخرى بمآلات توجهاتها وسياسات اقتصادها ونتائج أحداثها..
بلد ينتج أكثر من 25 % من الثروة الاقتصادية العالمية ويحتل أقوى ترسانة عسكرية في العالم وأفضل معاهد بحثية وجامعات عالمية ومراكز تقنية ومصانع احترافية وأنجع المراكز الطبية على الكرة الأرضية وأكثر المساعدات الإنسانية.
والمتتبع لمجريات الأحداث يلاحظ أن المجتمع الأميركي بدأ في الآونة الأخيرة يواجه تحديات كبيرة ولعل من أكبر التحديات الحديثة موضوع المخاوف على الهوية والتركيبة الديموغرافية للسكان. فعلى سبيل المثال تواجه الهوية الأمريكية وبالأخص هوية البروتستانت البيض تحديات كبيرة بعدما تضاءلت نسبتها الديموغرافية إلى النصف تقريبا منذ العام 1970 وحتى العام 2025، والتي تناقصت لحساب الإقليات العرقية والدينية الأخرى كالهسبان اللاتينو والسود والكاثوليك.. إلخ ، كانت نسبة المسيحيين في الولايات المتحدة في 1970 تشكل 85 % من السكان، وكان المسيحيون البيض يشكلون 80 % من المجتمع الأميركي، في حين تراجعت نسبتهم في العام 2025 إلى 62-65 % فقط، ومن المتوقع أن تنخفض هذه النسبة إلى أقل من 50 % سنة 2050. أما المسيحيون «البيض» (من غير الهسبان/ اللاتينو) فقد انخفضت نسبتهم إلى نحو 40 % فقط سنة 2025، (30 % بروتستانت)، بعد أن كان البروتستانت يشكلون أكثر من 60 % من السكان في سبعينيات القرن العشرين. بينما حافظ الكاثوليك على نسبتهم بحدود 23 % تقريبًا (بسبب قدوم أبناء الأصول الهسبانية)؛ وبلغت نسبة من ليس لهم انتماء ديني نحو %30. ومن ناحية التوزيع العرقي، فقد كان الأمريكيون البيض (من غير الهسبان/ اللاتينو) يشكلون سنة 1970 نحو 85 % من المجتمع الأميركي، وقد انخفضت نسبتهم سنة 2025 لتصل إلى نحو 57 % فقط. وارتفعت نسبة الهسبان/ اللاتينو في الفترة نفسها من نحو 5 % إلى 20 % (نحو 62 مليونًا)، والسودِ من 11 % إلى 13 % (41 مليونًا) والآسيويين من أقل من 1 % إلى 7 % (19 مليونًا). وهو ما يعني أنّ «البيض» قد يفقدون غالبيتهم خلال العشرين سنة القادمة. وباختصار فإن قضية الهوية وفوقية الأمريكي الأبيض في الولايات المتحدة، قضية مفصلية وتمثل احد أهم التحديات التي تواجه المجتمع الأمريكي.
وعلى البعد الاقتصادي، فإن الوضع يمثل تحديا جوهريا آخر لدى صناع القرار هناك. حيث بلغ مجمل الدَّين العام 36 تريليونًا و220 مليارًا، وهو ما يساوي نحو 125 % من الناتج القومي الأميركي، بينما تبلغ خدمة الديون نحو 892 مليار دولار سنة 2025، ومن المتوقع أن يصل إلى 1.7 تريليون دولار سنة 2034. والأخطر من ذلك هو ما يلاحظ من تآكل الطبقة الوسطى، حيث يملك 1 % فقط من السكان نحو ثلث إجمالي الثروة في الولايات المتحدة، ويملك 10 % نحو %70 من إجمالي الثروة، بينما يمتلك النصف الأفقر من السكان أقل من 3 % من إجمالي الثروة؛ ويقدر عدد منهم تحت خط الفقر ب 37 مليون.
ومن جانب آخر، يُمثل النمو الصيني اقتصاديًا وعسكريًا وتكنولوجيًا مصدر قلق كبير لصانع القرار الأميركي. فمنذ 2009 بدأت الصادرات الصينية العالمية في تجاوز الصادرات الأميركية، حتى وصلت في سنة 2022 إلى نحو ضعف الصادرات الأميركية (3.6 تريليونات، مقابل 1.83 تريليون دولار)؛ ومن المتوقع أن يتساوى الناتج المحلي الإجمالي الاسمي Nominal الصيني مع نظيره الأميركي في سنة 2034، غير أنّ الناتج المحلي الإجمالي الصيني قد تجاوز نظيره الأميركي من ناحية القدرة الشرائية (PPP) منذ عشر سنوات، وهو يزيد عنه الآن بأكثر من 6 تريليونات دولار. هذا فضلا عن النمو السريع لاقتصاديات ومراكز تصدير أخرى أخرى كالهند واندونيسيا وتايوان..إلخ.
ومن الناحية الاجتماعية وجودة الحياة، تراجع معدل الأمن الداخلي بشكل ملحوظ، فعلى سبيل المثال تم تسجيل 21.570 جريمة قتل في الولايات المتحدة سنة 2020، وهو من المعدلات الأعلى عالميًا. وتأتي السجون الأميركية في صدارة السجون في العالم من حيث عدد المساجين حيث يوجد فيها نحو مليونَي سجين، يمثلون 25 % من المساجين في العالم! ومعظمهم من السود..
هذا فضلا عن تصاعد حالة الاستقطاب السياسي، والشد المتبادل بين اليمين المتشدد واليسار المتشدد، واتّساع المشاكل المرتبطة بالهجرة واللجوء، وزيادة مظاهر العنصرية والتوترات الاجتماعية، والعجز المتزايد لدى الطبقات الاجتماعية المتوسطة عن توفير الرعاية الصحية والتعليمية وشراء المساكن، وزيادة مظاهر العنف المسلح والجريمة.
ولم يكن البعد العسكري للولايات المتحدة بأكثر حظا من أبعاد التنمية الأخرى، فقد واجه هو الآخر تحديات غير مسبوقة.
لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الوحيد في الميدان العسكري العالمي فقد افاق الدب الروسي من غفوته وبدأ يستعرض عضلاته النووية وقدراته القتالية وحقق انتصارات حاسمة في حربه على أوكرانيا، كما أن الصين أيضا التفتت إلى أهمية تعزيز قدراتها العسكرية وبدأت تتطلع إلى وضع قدم لها في الساحة العسكرية العالمية وقد ضاعفت ميزانيتها العسكرية بنحو 800 % في السنوات العشرين الماضية، مقارنة بزيادة بنحو 65 % للولايات المتحدة في الفترة نفسها.
وفي ميدان السياسة العالمية يبدو أن أهم المستجدات العالمية يتمثل في بعدين: الأول هو تراجع دور وقوة المنظمات فوق الأممية كالأمم المتحدة ومحكمة العدل الدولية ومحكمة الجنايات الدولية ومنظمة التجارة العاليمية والأنوروا .. إلخ وعودة صوت البارود الذي أصبح يمتلك حصة كبيرة من القرار العالمي، كما كان يقول ونستون تشرشل «حيثما يصل مدفعك يصل صوتك».
والثاني هو اتجاه بعض القوى العالمية إلى التكتلات ووضع علامات استفهام على مخاطر الاعتماد على الآخر، والرغبة في الاستقلالية بدلا من الاعتماد على قدرات ونظم وتشريعات المنظمات العالمية.
وربما أن تلك التحديات تفسر السياسات والقرارات المفصلية التي اتخذها الرئيس ترامب والتي تهدف إلى ما عرف ب (MAGA).
وخلاصة القول، واستنادا إلى المعطيات أعلاه بما فيها من مقومات قوة ونقاط ضعف، فإنه يبدو أنه من الصعب التنبؤ بمستقبل هذه الإمبراطورية العظمى لأن ذلك يعتمد أساسا على متغيرات كثيرة خارجية وداخلية بما فيها ردود الفعل من الدول المحورية اقتصاديا وعسكريا، وعلى قدرة النظام العالمي الحالي والمنظمات فوق الأممية على التماسك والاستمرارية وعلى ردرد الفعل للشارع الأمريكي داخليا، وعلى قدرة الإدارة الحالية على المضي في سياساتها الاقتصادية الجديدة ..الخ.
إلا أنه بالنظر إلى حجم التحديات الداخلية وصعود الاقتصاديات المنافسة الأخرى، ومالم تفضِ سياسات الرئيس ترامب إلى حلول جذرية وتحقيق مستهدفاتها فإن المشهد العالمي سيسير باتجاه نهاية مرحلة القطب العالمي الواحد. وقد يشهد تراجع دور هذه القوى العظمى في ميدان الاقتصاد والسياسة العالميين لحساب الاقتصاديات المنافسة الأخرى، ولكنه تراجع نسبي لا يفضي بطبيعة الحال إلى مرحلة الضعف الكلي.
الأيام حبلى، والأمر لله من قبل ومن بعد.