عبدالوهاب الفايز
الآن الإدارة الأمريكية تفتح نيران المدفع على الجميع، رسوم جمركية على العالم (حتى على جزر البطريق)، وضوابط جديدة لإعادة تعريف الحرية الأكاديمية وحرية التعبير داخل الجامعات..
وهناك أكثر من 500 من كبار شركات وبيوت المحاماه تتكتل ضد قراراته، وفي مفارقة عجيبة: الحلفاء والأصدقاء يتحركون للاتحاد في المبادرات وتنسيق التحركات السياسية والاقتصادية ضدّ العم سام، ومنظومة الإعلام والفكر المحسوبة على التيار الفكري الليبرالي الديمقراطي الغربي تُوحد خطابها ضد الإجرات المدوية في الاقتصاد العالمي.
العالم الآن يتحفز للمواجهة مع قضية كبرى..
المؤكد أن مشروع ترامب الجديد سوف يُنهي حقبة عولمة التجارة الدولية التي وضعت أمريكا قواعدها، وكانت أكبر المستفيدين منها، بالذات الشركات الأمريكية العملاقة التي تشكل نواة الرأسمالية الاحتكارية المعاصرة.
لقد أعلن ترامب عن (يوم التحرير) الجديد لأمريكا.. وتوارى ليدع العالم يواجه الارتدادات العنيفة وكأن زلزالا هزّ صفائح الكرة الأرضية الرئيسية، وذكّرنا بالمتنبي الذي قال:
أَنامُ مِلءَ جُفوني عَن شَوارِدِها
وَيَسهَرُ الخَلقُ جَرّاها وَيَختَصِمُ!
* * *
الرئيس دونالد ترامب، وبعد سنوات من دخوله المسرح السياسي، هناك من يراه لغزًا في الحياة العامة الأمريكية، وبعد عاصفته الاخيرة عاد السؤال، هل هو حالة عابرة أم هو يُعبر عن بنية عميقة؟ هل يُحرّكه مزاج شخصي جامح، أم هو مجرد سياسي جدلي لديه مشروع فكري واستراتيجي يحاول عبره إعادة صياغة مفهوم (الهيمنة الأمريكية) بشروط جديدة؟
المؤكد أنه يتَّبع نهجاً جديداً في ممارسة القيادة مخالفا قيادات أمريكا السابقة التي مارست حالة الخفاء والتجلي. كانوا يحرصون أن تكون صورة أمريكا أمام العالم قوية بين أقوياء، ومتسامحة كريمة، لها وجهها الناعم في قضايا العالم المصيرية. كانت تتجمل - على الأقل - في العقود الماضية.. أمّا العاصوف ترامب فهو يريدها قوية مهيمنة أنانية وفوق الجميع: الحلفاء والأصدقاء!
في كل ما يفعل أو يقول: ترامب (لا يقدح من رأسه). هو شخصية سياسية تعمل داخل إطار تيار فكري محافظ/ شعبوي، يسعى لإعادة تعريف أدوار أمريكا عالميًا، ويطرح رؤيته الخاصة لمفهوم القوة وإدارة الصراع. وهذا ليس استنتاجا شخصيا جديدا، بل رأي النخب الفكرية الأمريكية. هذه النخبة ترى بأن ترامب ليس نتاج مؤسسة سياسية تقليدية، ولا يُعد قارئًا للفكر السياسي أوالجيوستراتيجي بالمعنى التقليدي. هو رجل الصفقات الكبرى، ويمتلك (حدسًا سياسيًا شعبويًا) يستثمره، بذكاء او بخبث، في حقبة أمريكية يسودها شعور شعبي بالخذلان من (عولمة تجارية) أدت إلى تراجع كبير في امتيازات الطبقة الوسطى. والتراجع يتزامن مع صعود قوى عالمية منافسة على الصدارة مثل الصين، ويأتي في حقبة تشهد صراع هويات وتفككا داخليا ثقافيا وعرقيا، وفجوة تتسع بين الأثرياء والفقراء، وديونا تتجمع كجبال الجليد. لذا، ترامب جاء لكي يُفعّل مشروعًا فكريًا جاهزًا كان ينتظر قائد غير تقليدي، ليس لديه ما يخسره ولديه عداء قوي مع النخبة السياسية الأمريكية في واشنطن. هكذا دبر الأمر بليل أو بنهار.. لا يهم!
والمشروع الذي يعمل على تنفيذه ترامب، كما يقول خصومه ولا ينكره مؤيدوه وأنصاره، هو مشروع غير رسمي مطروح في (اتفاقية مار-أ-لاغو)، إشارة إلى المجمع السكني للرئيس ترامب في ولاية فلوريدا. والاتفاقية هي استراتيجية اقتصادية مقترحة وُضعت بدعم رئيسي من نائب الرئيس جيه. دي. فانس، ووزير الخزانة سكوت بيسنت، وستيفن ميران من مجلس المستشارين الاقتصاديين.
هدف المشروع امران كبيران: معالجة الاختلالات التجارية المستمرة، ومعالجة المبالغة الملحوظة في قيمة الدولار الأمريكي، الذي ارتفع بنحو 40% مقابل العملات الرئيسية الأخرى منذ الأزمة المالية عام 2008 مما رفع تكلفة الصادرات الأمريكية وانخفاض تكلفة الواردات، وهذا اوجد عجزا تجاريا يتجاوز تريليون دولار سنوياً. وتسعى الاتفاقية إلى خفض قيمة الدولار لتعزيز القدرة التنافسية للصادرات الأمريكية لأجل تحفيز التصنيع المحلي.
وفي السياق التاريخي، تذهب مصادر عدة إلى القول إن (اتفاق مار-أ-لاغو) مستمد من (اتفاق بلازا لعام 1985)، حيث اتفق وزراء المالية ومحافظو البنوك المركزية من دول مجموعة الخمس (فرنسا، ألمانيا، اليابان، المملكة المتحدة، والولايات المتحدة) على التدخل في أسواق العملات لخفض قيمة الدولار الأمريكي. حينئذ كان الهدف من هذا الجهد المنسق هو تصحيح اختلالات التجارة، ويعد مثالاً ناجحاً للتعاون النقدي الدولي. وينص الاقتراح الحالي على نهج متعدد الأطراف مماثل لمواجهة التحديات الاقتصادية الراهنة.
الآن هناك قناعة بأن كل خطوات الرئيس هي تنفيذ لهذا الاتفاق، وهذا مبني على الآليات المقترحة لتحقيق أهداف الاتفاق الثلاثة. أولها، خفض قيمة العملة عبر تدخلات منسقة مع شركاء تجاريين رئيسيين لإضعاف قيمة الدولار الأمريكي لرفع تنافسية الصادرات الأمريكية عالمياً.
الثاني، إعادة هيكلة الديون عبر تشجيع حاملي سندات الخزانة الأمريكية الأجانب على تحويل ديونهم الحالية إلى أدوات طويلة الأجل، مثل (سندات المئة عام!!)، لإدارة الدين الوطني بفاعلية أكبر. وأخيرا تعديلات في السياسة التجارية عبر تطبيق التعريفات الجمركية والاستفادة من إمكانية الوصول إلى الأسواق الأمريكية للتفاوض على شروط مواتية مع الشركاء التجاريين، بهدف خفض العجز التجاري ودعم الصناعات المحلية.
ربما هذا يقدم التفسير الواقعي للأمور العظام التي تجري في أمريكا.
فالسياسة الخارجية للرئيس ترامب يصعب وضعها في إطار القرارات الفردية، بل هي نتاج مشروع لإعادة هيكلة الهيمنة الأمريكية بعيدا عن (العولمة) بالتزاماتها السياسية أوالاقتصادية أوالأخلاقية. أيضاً هو يرفض فكرة أن تكون (أمريكا شرطي العالم)، يريدها أن تبقى قائدة عالمية بشرط أن تدفع الدول الأخرى الثمن لهذه القيادة.
وهذا ربما هو أكبر سبب وراء قرار رفع الرسوم الجمركية السريع، فالرئيس ترامب يسعى إلى عدة أمور، مثل اعادة التفاوض الثنائي مع الدول للحصول على مكتسبات من كل دولة مقابل رفع الرسوم.
ثانيا هو يبحث عن مصدر مالي لخفض الدين العام، ويسعى إلى امر مهم وهو استعادة القطاع الصناعي، رغم أن هذا غير ممكن بعد أن اصبح قطاع الخدمات يشكل 70% من حجم الاقتصاد.
ولكن هذا مسار يستجيب للقاعدة الشعبية التي ليس لديها مهارات اقتصاد الخدمات المعرفي، فهذه مازالت تتطلع إلى حقبة الصناعة التقليدية التي تستقطب العمالة متوسطة المهارات، بالذات في صناعة السيارات. هذه أهداف تكتيكية تحقق مكتسبات سريعة، وهذا ما يبحث عنه ترامب قبل الانتخابات النصفية بعد سنتين، فهناك احتمال عودة الديمقراطيين للأغلبية في الكونجرس.
مهما كانت دوافع الإدارة الأمريكية، المهم أن العالم تفاعل مع هذا الواقع الجديد بكل جدية، الحلفاء والأصدقاء والأعداء.. فهناك من استعد مبكرا لهذا الواقع بالذات الصين التي استخدمت (المرونة الاستراتيجية)، ليس للمواجهة بل للاستفادة من معطيات التحدي الجديد.
الصين دولة تعتمد قوة اقتصادها ونموها على حجم صادراتها، وتأثرها بالتعريفات الجمركية الجديدة سوف يحد من إنتاجها الصناعي، وبالتالي انخفاض استهلاكها من النفط. الأوربيون وجدوا أنفسهم في متاهة، فالقارة العجوز في مواجهة وجودية لاستعادة شبابها!
بشكل عام.. (الله يعين) الدول التي تعتمد على الصادرات، فهذه ستكون أمام تحديات كبيرة، وفي مقدمتها الدول المصدرة للنفط والغاز، والتأثير سوف يأتي من أمرين مهمين: انخفاض الطلب على الطاقة، و(انخفاض قيمة الدولار). هذه ربما تكون أكثر تأثرا بتداعيات الحرب التجارية والاقتصادية التي انطلقت، ويبدو أن الأيام - مع ترامب - ستكون حبلى بكل عجيبة!