د. محمد بن أحمد غروي
بينما يشهد العالم تطورات اقتصادية متسارعة، جاءت قرارات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الأخيرة بفرض تعريفات جمركية جديدة على واردات عدد من الدول لتعيد تشكيل المشهد التجاري العالمي، ولا سيما في منطقة جنوب شرق آسيا، حيث من المتوقع أن تكون دول الآسيان من بين أكبر المتضررين من تلك السياسات.
فقد فرضت واشنطن تعريفات جمركية ثقيلة تراوحت بين 10 في المائة و49 في المائة على صادرات دول جنوب شرق آسيا، تصدّرتها كمبوديا بنسبة 49 في المائة، تلتها لاوس 48 في المائة، وفيتنام 46 في المائة، وميانمار 45 في المائة، تايلاند 37 في المائة، وإندونيسيا 32 في المائة، في المقابل، كانت التعريفات أقل على كل من ماليزيا وبروناي (24 في المائة)، والفلبين (18 في المائة)، وسنغافورة (10 في المائة).
في السنوات الأخيرة، استطاعت دول جنوب شرق آسيا أن تحقق قفزات اقتصادية نوعية في علاقاتها التجارية مع الولايات المتحدة، وتُعد فيتنام مثالًا بارزًا لذلك، إذ بلغ فائضها التجاري مع الولايات المتحدة ما يقارب 123 مليار دولار في عام 2024، بينما سجلت تايلاند فائضًا بلغ 45 مليار دولار، ما يجعل من السوق الأمريكية شريانًا حيويًا لصادرات هذه الدول. لكن يبدو أن هذه الإنجازات تحوّلت إلى سبب مباشر لتشديد العقوبات التجارية الأمريكية، حيث تشير التقديرات إلى أن التقارب الاقتصادي بين هذه الدول وبكين، والفوائض التجارية العالية مع واشنطن، شكّلت عاملًا رئيسًا في تحديد نسب التعريفات الجمركية الجديدة.
التحليل الاقتصادي يشير إلى أن هذه الرسوم قد تدفع بعض المستثمرين الأجانب إلى إعادة التفكير في وجهاتهم داخل المنطقة، وقد ينتقل الاستثمار من دول مثل فيتنام وتايلاند ولاوس نحو أخرى كالفلبين وسنغافورة وماليزيا، التي تتمتع بتعريفات أقل نسبيًا.
ويعزز هذا الاحتمال ما شهدته المنطقة خلال فترة رئاسة ترامب الأولى، حين أدت التعريفات على الصين إلى انتقال الصناعات إلى دول الجوار، خاصة فيتنام. اليوم، قد نشهد موجة أخرى من التحول، ولكن داخل نطاق دول الآسيان نفسها.
لم تتأخر ردود الأفعال الرسمية؛ فقد أبدت دول المنطقة قلقها البالغ إزاء تلك القرارات. في كمبوديا، دعا رئيس الوزراء هون مانيت إلى مفاوضات عاجلة مع واشنطن، مقترحًا خفض تعريفات الاستيراد على عدد من السلع الأمريكية بنسبة تصل إلى 5 في المائة لتفادي آثار الرسوم. أما فيتنام، فقد استبقت الإجراءات الأمريكية بإصدار مرسوم يقضي بتخفيض الرسوم الجمركية على السيارات، والمنتجات الخشبية، والمواد الغذائية القادمة من الولايات المتحدة، ما قد يشكّل خطوة ذكية نحو التهدئة الاقتصادية.
كونها الرئيس الحالي لرابطة دول الآسيان، تتصدر ماليزيا جهود التوصل إلى موقف موحد حيال هذه المستجدات.، حيث أعلن رئيس الوزراء أنور إبراهيم عن بدء مشاورات إقليمية لتنسيق الردود، مع تأكيده على ضرورة الحفاظ على مبدأ العدالة في التجارة الدولية. كما دعا إلى اجتماع وزاري خاص لمناقشة الإجراءات اللازمة لتقليل الأثر الاقتصادي للقرارات الأمريكية.
يشير عدد من الخبراء إلى ضرورة إعادة توجيه البوصلة التجارية لدول الآسيان نحو أسواق أخرى، سواء في أوروبا، وإفريقيا أو حتى ضمن تكتلات اقتصادية ناشئة مثل مجموعة بريكس، ومن المتوقع أن تعزز إندونيسيا، على سبيل المثال، من شراكاتها مع هذه الدول، لتأمين بدائل اقتصادية أمام الضغوط الأمريكية المتصاعدة.
في ظل هذه التحديات، تعود الصين إلى الواجهة كشريك استراتيجي أساسي، وتأتي الزيارة المرتقبة للرئيس الصيني شي جين بينغ إلى فيتنام، ثم ماليزيا وكمبوديا منتصف أبريل الجاري لتؤكد عزم بكين على تعزيز الروابط الاقتصادية مع دول جنوب شرق آسيا، بما قد يسهم في التخفيف من تبعات القرار الأمريكي.
من الواضح أن قرار الإدارة الأمريكية الأخير سيُحدث اضطرابًا حقيقيًا في منظومة التجارة الإقليمية والدولية، وستكون دول جنوب شرق آسيا في قلب العاصفة. إلا أن هذه الدول، بمرونتها الاقتصادية وتحالفاتها الاستراتيجية، قد تنجح في تحويل الأزمة إلى فرصة لإعادة التوازن في شراكاتها الدولية.