محمد سليمان العنقري
السقوط المدوي لأسواق المال في العالم نتيجة إقرار اميركا لرسوم جمركية شملت 180 دولة وكيان فتح الباب على مصراعيه لأن تسيطر المخاوف وحالة الهلع على المستثمرين خصوصاً في الاسواق المالية ومسحت تريليونات الدولارات من قيم الاسواق في مدة ثلاثة ايام فالرسوم الجمركية اثارها وتداعياتها لو استمرت ستنعكس بتباطؤ اقتصادي عالمي ودخول اقتصادات كبرى مثل اميركا في ركود تضخمي مما يعني انفاق اقل وتجارة عالمية متراجعة وطلب على السلع والخدمات منخفض بشكل عام كون اميركا تمثل 25 بالمائة من الناتج الاجمالي العالمي وترتبط بها جل اقتصادات العالم ولذلك فالاسواق تذهب بحساباتها عند وقوع الصدمة لأبعد احتمال سيء للتحوط من المخاطر قبل ان يعاد التقييم للاثار وتحديد القطاعات الاشد ضرراً وايضاً التركيز على توزيع الاستثمارات بأصول وأوراق مالية لا تتأثر بالأزمات بل تكون هي الملاذ الآمن.
ولكن، عند النظر لحال أسواق المال عالمياً فإن السوق الامريكي كان مهيأ للتصحيح منذ فترة طويلة، والدليل ن كبار المستثمرين بدأوا بالتخارج منذ العام 2023 ومن أهمهم وارن بافيت الذي رفع حجم النقد الى 334 مليار دولار واحتفظ بنسبة 50 بالمائة من أسهم في شركة بيركشاير التي يعد من أكبر ملاكها، ويديرها بنفسه، فمنذ عام 2008 بعد الأزمة المالية العالمية ارتفعت الاسواق الامريكية بنسب كبيرة جداً دون المرور بتصحيح عميق، ولكن مع ضعف أداء الاقتصاد وتضخم الأسعار كان التصحيح منتظراً ولا يحتاج لأي عذر والرسوم كان لها الكلمة ببداية إعادة تسعير الأسهم من جديد في أميركا، ولكن بشكل حاد وهي طبيعة ثابتة بالأسواق عندما تتحول لسوق هابطة يكون النزول حاداً بالبداية، ثم يتبعها تقلبات لمدة طويلة، ولكن دائماً تكون المحصلة مستويات أقل بنهاية الشهر أو الفصل أو العام.
والحديث هنا عن أي سوق مالي وليس الامريكي حصراًً وقد توقعت حالة التصحيح وتباطؤ الاقتصاد الأمريكي في مقابلة سابقة على قناة العربية في شهر أغسطس من عام 2024 لأن المعطيات كانت تعزز هذا التوجه.
لكن ما يهمنا اليوم هو سوق الأسهم السعودي الذي لا يشهد تضخماً بالمكررات ويوجد فيه فرص عديدة تحتاج للتركيز للبحث عنها، مع وعي بكيفية تعامل المستثمرين مع تداعيات أزمة الرسوم الجمركية عالمياً من خلال فهم أثرها على الاقتصاد السعودي؛ فهناك ارتباط مباشر يتعلق بمخاوف هبوط أسعار النفط لفترة طويلة، وهذا احتمال لا يمكن تأكيده بالوقت الحالي أو في أي مستوى قد تكون متوسطات الاسعار، فالمستثمر سيحاول معرفة الأثر على نتائج شركات مرتبطة بهذا القطاع، وبمعنى أكثر دقة فإن أثر الرسوم هو على شركات التصدير لكن قبل الحكم المطلق يجب معرفة التحولات التي قد تحدث بالحصص السوقية لبعض الشركات، والتي لديها منتجات قد تستفيد من أسواق كبرى مثل الصين اذا أخذت جزءا مما تصدره الشركات الامريكية لها باعتبار أن الرسوم العالية بين الطرفين سترفع من تكلفتها، وتفقد بذلك تنافسيتها فالمملكة علاقاتها التجارية الدولية عميقة وقوية جداً، أما الاثر الآخر فهو يرتبط بالتساؤلات حول تخفيض الإنفاق العام اذا تراجعت الايرادات النفطية عن التقديرات لهذا العام، وهذا ايضاً ليس وارداً حالياً لأن المملكة لديها ملاءة مالية قوية وتصنيف ائتماني عال ومديونية منخفضة وخططها التنموية تسير بشكل منضبط وحسب الأهداف المرصودة؛ مما سيبقي الناتج الاجمالي غير النفطي بوضع ايجابي، وبذلك فإن المستثمر عليه أن يركز أكثر على الشركات التي تعمل محلياً وبقطاعات لا يمكن الاستغناء عن منتجاتها وخدماتها، وهي ما تسمى بأسهم دفاعية، كما يجب على المستثمر أن يدقق بالشركة التي ينوي أن يستثمر بها ويبحث عن مدى جدوى هذا الاستثمار، وأي تطورات اساسية تغيرت سلباً او إيجاباً من خلال معرفة مكرر الربح ومعدلات النمو وخططها المستقبلية للتوسع بأعمالها وأيضا نسبة التوزيعات للسعر السوقي الذي سيشتري به السهم وغيرها من المعلومات عن الشركة مالياً واساسياً حتى لا يتخذ قرارات خاطئة نابعة من المخاوف فقط ومتأثرة بنظرية التغذية المتبادلة؛ أي اذا شاهد اللون الاحمر يبيع واذا شاهد اللون الاخضر يشتري، في كلتا الحالتين هذا لا يعتبر أساسا لبناء قرار استثماري، كما يجب على المستثمر أن يحتفظ دائماً بهامش من النقد لاقتناص الفرص.
حتى تهدأ عاصفة الرسوم الجمركية حالياً وتتضح مقاصدها لابد من التروي والتأني في اتخاذ القرارات الاستثمارية في أسواق المال بيعاً او شراءً؛ فالرسوم مازال ينظر لها كورقة تفاوضية وليست استراتيجية دائمة؛ فاميركا بنهاية المطاف اشعلت ساحة التجارة العالمية بهذا الحجم من الرسوم لكي تغلق الملف سريعاً عبر المفاوضات وإعادة عقد اتفاقيات جديدة تعالج عجزها التجاري وترفع الانتاجية لديها، وتبطئ نمو الدين العام لأن الحكومة الامريكية معتمدة على أن سوقها لا يمكن ان يعوض من شركائها التجاريين الكبار بسهولة، خصوصا الصين واوروبا وكندا واليابان وفيتنام والمكسيك؛ فالرئيس الامريكي لا يمكنه ان يحول الاقتصاد لركود تضخمي ثم يتوقع أن يفوز حزبه بأغلبية في انتخابات الكونجرس النصفية العام القادم؛ إذ عليه ان يعالج الازمة الحالية سريعاً والا فإن الجمهوريين سيكونون أكبر الخاسرين سياسياً ولسنوات طويلة لصالح الديمقراطيين.