أ.د. يحيى بن محمد شيخ أبو الخير
بداية أتوجه بخالص الشكر والتقدير وبالغ الامتنان لسعادة أخي الزميل الأستاذ الدكتور علي بن معاضة الغامدي، أستاذ الخرائط بقسم الجغرافيا بجامعة الملك سعود على مقالته المنشورة في جريدة الجزيرة الجمعة/ السبت 21 مارس 2025م بعنوان «نحو تعزيز الربط بين الأبعاد المقيسة وغير المقيسة في العلوم الجيومكانية بمنظور الأنطولوجيا» التي سطرها تعقيبا على مقالتي الموسومة «قراءة جديدة في العلوم الجيومكانية» المنشورة في الجريدة نفسها بتاريخ 14 فبراير 2025م.
وأود ابتداءً قبل الرد على هذا التعقيب تذكير سعادته الجليلة وقرائي الأفاضل بالمنطلقات المفاهيمية لمحور الارتكاز المعرفي الرئيس لمقالتي التي عقب عليها الزميل العزيز.
فتعد هذه المقالة، التي حبرتها وفق منظور معرفي استنباطي استقراء- استدلالي راجع التغذية، قراءة معرفية مرجعية غير مسبوقة الأسانيد لمفهومي «المكان والزمان» وطبيعة علاقتهما ككيانين مقيسين في العلوم الجيومكانية بنظيريهما الاصطلاحيين الصرف لغويا غير المقيسين «المكانية والزمانية» المُؤْطِّرَين منهجيا للمنظومة المفاهيمية المعرفية المعاصرة لهذه العلوم. ونظرا لكون العلوم الجيومكانية ترصد في المكان وفق مفاهيم المكان أطياف الزمان، كما ترصد في الزمان وفق مفاهيم الزمان أطياف المكان، ينبغي إذن النظر إلى مفهوم «المكانية» وفقا لهذه القراءة كبنية ذهنية غير مقيسة الأبعاد مشتقة صرفيا عن مصطلح «المكان» الذي من الممكن تصوره بتفعيل هذه الهيئة المفاهيمية المكانية كصيغة مقيسة الابعاد تُوظَّف في تأطير مختلف الخصائص الجيومكانية قيد النظر. وكذلك ينبغي النظر إلى مفهوم «الزمانية» المشتق صرفيا من مصطلح «الزمان» كهيئة ذهنية غير مقيسة توظف لوصف الوقائع الزمكانية الجيو مساحية التي تتأرجح ظاهريا بين طيفين متضادين الأول هو الطيف غير المقيس والثاني هو الطيف المقيس. ولا شك أن هذا التضاد الظاهري بين ما لا يقاس وهو «المفهوم» وبين ما يقاس وهو «الواقع» يجعل التعامل مع هذا التضاد المفاهيمي حسب هذه القراءة أمراَ يتطلب دقة تنظيرية وإجرائية لرسم الحدود بين «المفهوم والواقع».
وقد تتعرض هذه الحدود في اعتقادي لطفرات تأزم مفاجئ نتيجة لعدم الانسجام تطبيقيا أحيانا بين المفهوم والواقع الذي نتصوره ونسعى لفهمه وتفسيره جيومكانيا. ولكن من حسن الحظ أن قابلية منظومة الطيفين الجيومكانيين الآنفين الذكر «المقيس وغير المقيس» للتغير والتطور وإعادة صياغتهما وفقا لمستجدات المعرفة والتقانة وتطورات أنماط البرمجة الحاسوبية والمحاكاة الرقمية قد يقلص إلى حد كبير من آثار هذه الأزمة ويسدد فجوات التضاد الظاهرية بين المفهوم والواقع الزمكاني المُؤَطِّر للعلاقات الارتباطية بين الظواهر المكونة للبنى المفاهيمية التحتية للعلوم الجيومكانية.
وعلى أية حال فارتباط الظواهر بعضها ببعض وتلازمها الظاهري شيء وارد الحدوث ويتكرر زمكانياَ في الأغلب الأعم في هذا العالم، ولكن لا ينبغي أن يعد هذا التلازم الظاهري حسب منظور قراءتي مبرراَ للاعتلال دوما بالنموذج السببي في التحليلات الجيومكانية المعاصرة. فالسبب الذي يؤدي إلى نتيجة ما قد لا يؤدي نفسه إلى النتيجة ذاتها في ظروف أخرى مما يعني أن مبدأ السببية كنموذج يجب أن يقتصر منطقيا في العلوم الجيومكانية على وصف الروابط بين الظواهر دونما تفسيرها سببيا أو الجزم بحدوثها أو إنكار ذلك الحدوث ونفيه جملة وتفصيلا الا ظاهرا.
بناءً على التفاصيل المتعلقة أعلاه بالمنطلقات المفاهيمية التي تضمنتها مقالتي من ناحية وقراءتي المتأنية لتعقيب البروف الغامدي عليها من ناحية أخرى، يتضح أن سعادته قد جنح في تعقيبه فغرد خارج السرب مبتعداً عن صلب محتوى مقالتي وغاياتها المنشودة وتراكيب بنيتها التناصيه الأبستمولوجية الجيومكانية التوجه معتمدا في ذلك على ما لا صلة له بمقالتي من أدبيات انطولوجية محدودة عفى عليها الزمن وتجاوزتها العلوم الجيومكانية المعاصرة.
كما لم تكن مقالتي.. إخوتي القراء بأي حال من الاحوال كما تصورها أ.د. الغامدي ضمنياً في تعقيبه المذكور قراءة شمولية فضفاضة لعموم المفاهيم في العلوم الجيومكانية. بل كانت على العكس من ذلك قراءة تنظيرية مفاهيمية دقيقة تخص تحديدا: «المنظومة المفاهيمية الزمكانية المقيسة وغير المقيسة في العلوم الجيومكانية» دونما سواها من المفاهيم الأخرى في هذه العلوم. وبناء على ما سبق ذكره أعلاه تعد قراءتي، أنموذجا لحالة مرجعية حدية غير مسبوقة تتعلق حصريا بمفهومي المكان والزمان كبعدين مقيسين وبالإشكاليات المعرفية التي تنجم عن تحولاتهما اللغوية الصرفية إلى نظيريهما «المكانية والزمانية» اللذين يعدان هيئتين لبنيتين ذهنيتين غير مقيستين شائعتي الاستخدام في التطبيقات الجيومكانية المعاصرة.
إن هذا التحديد المعرفي المجالي الآنف الذكر لمقالتي ينسف تماما تعقيب البروف من أساسه ويدحض مراميه المعلنة والضمنية ويؤكد على أن مقالتي لم تكن أولا كما فهمها البروف القدير «قراءة عامة للعلوم الجيومكانية» وإنما كانت سياقا معبرا بصدق ثانيا عن واقع حال المقال «كقراءة خاصة لحديات مفاهيم الزمكان في العلوم الجيومكانية». وشتان بطبيعة الحال بين منظور القراءتين السابقتين الأولى التي أخذ بها الزميل الفاضل فحرفت تعقيبه على مقالتي عن صراطه المعرفي المستقيم، والثانية التي أخذت بها في مقالتي لسبر مفهومي المكان والزمان في العلوم الجيومكانية وحلا للإشكاليات التي تحدث نتيجة تحولاتهما اللغوية الصرفية اجرائيا إلى مفهومي المكانية والزمانية المؤطرين للهيئة الذهنية المفاهيمية في تلك العلوم. وعلى الرغم من وضوح المفارقات بين منظوري القراءتين السابقتين الذكر الا أن الزميل الكريم لم يوفق في توظيف انسب اجراءات الفرز المنهجي التي تمكنه من التمييز في التعقيب بين أنماط المفارقات الدقيقة المختلفة المُؤَطِّرة للبدائل التناصيه ذات العلاقة في مقالتي بمختلف القراءات قيد النظر، فجاء تعقيب الزميل الجليل على مقالتي نتيجة لذلك غير مستوفٍ منهجيا للخطوط المعرفية المفاهيمية العريضة المتعلقة بأوجه المنظور المعرفي الذي تمت في ضوئه صياغتي لمقالتي. ومن أمثلة الأوجه التي لم يوفق الزميل العزيز من استيفائها في تعقيبه على مقالتي القرائن المعرفية الجائزة للأبعاد الزمكانية المقيسة وغير المقيسة في العلوم الجيومكانية وتوجهاتها الفلسفية وآفاق تنظيرها ونمذجة قواعد بنياتها ومراميها التناصيه وقوانين التحليل لهيئات نماذجها الاعتبارية ومفاهيم التعليل وأقيسة مسوغات المقارنات بين أدبيات هذه العلوم وفرص تدوينها والتحقق منها جيومكانيا. كما تتجلى تلك الأوجه أيضا في مفارقات حادة أخرى لم يعرها تعقيب الزميل الكريم اهتماماً يذكر ومنها على سبيل المثال لا الحصر النسيج الفكري المنظومي التفصيلي والعام للمقال والحيثيات المتعلقة فيها باستنباط المنظومة الممثلة للعلاقات الائتلافية بين الواقع الزمكاني المقيس والمفهوم الجيومكاني غير المقيس وما يتعلق بتلك الأمور الآنفة الذكر من محددات النظر المقارن وشواهده المنطقية واستراتيجيات الغايات وأساليب السبر والاعتبار ومنهجيات التدقيق والتدوين للبنى التركيبية الفلسفية التي في ضوئها تمت صياغة المقال.
وعلى الرغم من أهمية أوجه تلك المفارقات الآنفة الذكر إلا أن تعقيب أ.د. الغامدي قد أغفل الأخذ بها وخاصة ما يتعلق من تلك الأوجه بالسمت العلمي والمعلمي التنظيري لتلك المفارقات، فجاءت نتيجة لذلك ملاحظات الزميل الفاضل في تعقيبه على مقالتي أشبه بمن يغرد في وادٍ غير الوادي الذي فيه تصول أطروحات مقالتي وتجول. ورغم الجهد الذي قام به الزميل الفاضل في سبيل تفكيك مقالتي وإعادة صياغتها لتوصيلها مبسطة للقراء كما ذكر في تعقيبه، فقد انحرف المساق بتعقيبه نتيجة لذلك الجهد غير المدروس بعيداً عن القضايا الأبستمولوجية ذات العلاقة المباشرة بمقالتي الجيومكانية التوجه إلى قضايا فرعية انطولوجية عديدة لا تمت بصلة منطقية أو معرفية بالقضايا الجيومكانية التي تعالجها مقالتي. وبناءً على ما تقدم اعتقد أن تعقيب الزميل على مقالتي لا يتعدى كونه صورة صارخة لمعركة بلا معترك، فجنحت تلك المعركة بذلك التعقيب إلى نتائج استنتاجية خاطئة ترتب عليها تشويه بنية خطاب المقال وإخراجه عن سياقاته الأبستمولوجية المنشودة وتفريغه من محتواه والاستشهاد ببعض حقائقه في غير مكانها المناسب لدعم النقاط المختلفة التي أوردها في تعقيبه.
كما جنحت تلك المعركة بالزميل الفاضل إلى تقويلي في عدة مواضع من تعقيبه مالم أقله أو ارمي اليه، فضلا عن اجتزاء بعض عبارات مقالتي من سياقاتها المقصودة وتوظيفها في دعم سياقات تعقيبه الأنطولوجي التوجه الذي لا صلة له بالمجال الجيومكاني لمقالتي مغردا سعادته في ذلك التعقيب خارج السرب كما أشرت إلى ذلك آنفا.
ولعل من أهم القضايا التي تتجلى فيها الأخطاء والمغالطات العلمية المشار إليها آنفا المسائل المتعلقة في تعقيب الزميل الكريم بالكيانات الجغرافية، وتصنيف المفاهيم الجيومكانية، والفجوة بين العالم الواقعي والتمثيل الرقمي التي تعكس أبشع المغالطات العلمية التي ساقها البروف في تعقيبه كعبارة مرادفة للعبارة المتعلقة بمقالتي بـ»أزمة عدم الانسجام بين المفهوم والواقع». هذا بالإضافة إلى احتواء التعقيب على أمثلة عديدة أخرى لا صلة لها البتة بمقالتي ومنها:
تطوير انطولوجيات رسمية، ومعالجة المفاهيم الغامضة، والانطولوجيات العليا وما شابه ذلك وانضاف إليه من هذه المغالطات اللفظية التي ليس لها في حقيقة الأمر أية قيمة نوعية مضافة لمقالتي.
وفي الختام يعد ما ورد في تعقيب أ. د. الغامدي على مقالتي تعزيزا في نهاية المطاف لجدية نظرية المعرفية الجيومكانية التي حبرتها في تلك المقالة وفق قالب معرفي جديد غير مسبوق مرجعيا، الأمر الذي ينسف تعقيب الزميل الكريم من جذوره ويجعل ما جاء فيه حجة عليه لا حجة له.