خالد بن عبدالرحمن الذييب
تبدأ العلاقة بين المدينة والإبداع منذ بدايات الاستقرار الإنساني حيث انتشار التجمعات البشرية وظهور المدن، وبالتالي ظهور الملاحم والأساطير والخرافات التي تتحدث عن عالم الغيبيات. استمرت هذه العلاقة بين الاثنين من خلال مكونات وتخطيط المدينة، ودورها في إنتاج الإبداع الإنساني. فملاحم مثل الإلياذة، والأوديسة لم تكن لتظهر لولا وجود مدينتي أثينا وطرواده اللتين شهدتا صراعاً عسكرياً استمر ما يقارب العشر السنوات حسب الأسطورة.
المكان والإنسان حالة تنتج عنها حالات من النشوة الفلسفية والعمق الثقافي، لا يمكن فصل المكان عن تطور الإنسان ولا يكمن تطوير المكان دون عقل الإنسان، فهما حالة ثقافية وروحية بين طرفين يتفاعلان مع بعضهما ويكملان بعضهما. فسقراط المولود في أثينا ذات المناخ الدافئ لنصف عام، ساعده وجود الأغورا كساحة عامة والمشي والتجول خلالها والنقاش تحت أروقتها فالإنسان الذي يطوّر المكان لا يتطور إلا من خلال المكان ذاته، لذلك أقول إذا كان أكثر من ساهم في تطوير الإنسانية في بداية التاريخ هم الفلاسفة على الرغم من بعض شطحاتهم، فإن من ساعد هؤلاء الفلاسفة للخروج بأفكارهم هو المكان! ومن صنع المكان هم ناس لا نعرف ماذا كانوا يسمون في حينه، ولكنهم حالياً... مخططو المدن!
هناك علاقة بين «المبدع والمخطط»، المخطط لا بد أن يكون عنده حس إبداعي يساعد المبدع على الإنتاج، فأغلب المبدعين احتاجوا إلى مقاهٍ تطل على ساحات، أو مناظر طبيعية، أو مليئة بالناس، أو ربما خالية منها، أو مفتوحة أمام الجميع، أو منزوية، وهذه كلها بمختلف أشكالها يقوم بصنعها وتنسيقها وربطها المخطط العمراني.
نجيب محفوظ حالة مشابهه لفكرة مختلفة، فهو كان نموذجاً حقيقياً لمبدع عاش حياته بين أماكن المكان الإبداعية، المقاهي والحارات، تلك الأماكن التي تصنع خيال المبدعين بعبقها وإرثها، فدور المخطط هو الحفاظ على الإرث، ودور المبدعين هو إبرازه، نجيب كانت حياته حياة مبدع حقيقي قضاها في مكان المبدعين ومآل وجنة الروائيين، المقاهي...
يحدث الإبداع نتيجة اختلاط أصناف متعددة من البشر بطبائع، وطبقات مختلفة، ينتج عنه تداخل في العلاقات وتشابك في المفاهيم، هذه التشابكات والتقاطعات كنز لأصحاب الخيال ولإنتاج الإبداع، سواء كان رواية، لوحة مرسومة، أو نصاً شعرياً! فالنص الشعري، نتيجة مكان مليء بالأماكن وربما مكان متفرد بذاته، أما اللوحة الإبداعية فتكون نتيجة طبيعة هادئة تأملية غالباً، أما النص الروائي فهو نتيجة صخب اجتماعي وحراك إنساني، وتفاعل مكاني.
أخيراً...
المكان يتحرك ويحرِّك، يتحرَّك بصانعيه، ويحرِّك خيال مبدعيه.
ما بعد أخيرًا...
المبدع يبحث عن روح وقيم المكان، بينما المخطط هو من يصنعها!