د. سفران بن سفر المقاطي
منذ أن بدأ الإنسان يسجل تاريخه، كان هناك إدراك مستمر بأن الأحداث تميل إلى التكرار بطرق مختلفة عبر الزمن. لذا تظهر مع الأحداث التاريخية عبارة: «التاريخ يعيد نفسه»، وهو ما يعكس فكرة أن الأنماط والأحداث التي وقعت في الماضي يمكن أن تتكرر في الحاضر أو المستقبل. ومع ذلك، فإن هذا التكرار لا يعني بالضرورة أن الأحداث تتكرر بالضبط بنفس الطريقة، بل إنها تأتي في سياقات مختلفة وتحمل معها دروسًا يمكننا تعلمها والاستفادة منها.
وتكمن أهمية فهم تكرار التاريخ في قدرتنا على التعلم من الأخطاء السابقة وتجنب تكرارها، ومن خلال دراسة الأحداث التاريخية وتحليل العوامل التي أدت إليها، يمكننا استخلاص دروس قيمة تساعدنا في مواجهة التحديات المستقبلية، ويمنحنا هذا الفهم القدرة على تطوير استراتيجيات فعالة للتعامل مع الأزمات الاقتصادية، والصراعات العالمية، والأوبئة، والتغير المناخي، وغيرها من القضايا التي تؤثر على مجتمعاتنا.
ومنذ فجر البشرية، ظل التاريخ مرآة ناصعة تعكس مسيرة الأمم والشعوب، حيث تتكرر الأحداث بأشكال وأزمنة مختلفة، لكن بعناصر جوهرية متشابهة.
وكما قال الفيلسوف جورج سانتيانا عبارته الشهيرة «من لا يتذكر الماضي محكوم عليه بتكراره» في كتابه «حياة العقل» (The Life of Reason)، الذي نُشر في عام 1905م، هذه العبارة تُستخدم غالبًا للتأكيد على أهمية دراسة التاريخ واستخلاص العبر منه لتجنب الوقوع في نفس الأخطاء التي حدثت في الماضي. ففي كل مرحلة من التاريخ نجد تكرارًا لنفس الأخطاء، والنزاعات، والسقوط والنهوض، وحتى الأزمات الاقتصادية والسياسية. فهل نحن قادرون على التعلم من هذه الدروس، أم أننا محكومون بتكرار ذات الأخطاء؟ ومن الأمثلة الواقعية على تكرار التاريخ التالي:
1- تكرار الحروب والصراعات في مختلف العصور، رغم الدمار الذي خلفته. فالحربان العالميتان في القرن العشرين تشبهان حروب نابليون من حيث التوسع الجغرافي والأطماع السياسية. واليوم، نجد أن الحروب في الشرق الأوسط وأوروبا الشرقية تحمل أوجه تشابه مع الصراعات الاستعمارية التي اندلعت في القرن التاسع عشر وبداية العشرين. فعلى سبيل المثال، الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022م يذكرنا بالتوسع الألماني النازي في ثلاثينيات القرن العشرين. فكما برر هتلر غزوه لدول أوروبية بحماية الألمان العرقيين. وبررت روسيا تدخلها بحماية الناطقين بالروسية في أوكرانيا. وكمثال آخر هو الحرب الكورية (1950-1953م) والحرب الفيتنامية (1955-1975م)، حيث نجد تشابهًا في الصراع الأيديولوجي بين القوى العظمى، وهما الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي، واستخدام الدول الصغيرة كميادين للقتال بالوكالة عن صراعاتهما.
وفي الشرق الأوسط، نجد تشابهات بين الحرب الإيرانية العراقية (1980- 1988م) والغزو الأمريكي للعراق عام 2003، فكلا الحربين شهدتا أطماعًا إقليمية وسياسية، وتأثيرات خارجية من القوى العظمى، والأضرار الجسيمة التي لحقت بالمدنيين والبنية التحتية.
2- الأزمات الاقتصادية فهي دورة لا تنتهي، فالأزمات المالية ليست جديدة على البشرية، لكنها تتكرر بسبب نفس الأسباب (الجشع، الفساد، والمضاربات غير المحسوبة)، فمثلا: أزمة الكساد الكبير عام 1929م بدأت بسبب المضاربة المفرطة في سوق الأسهم، وانتهت بانهيار اقتصادي عالمي. وأزمة 2008م المالية كانت نتيجة فقاعة الرهن العقاري، وأدت إلى انهيار بنوك كبرى مثل ليمان براذرز، والأزمة الاقتصادية 2023م والتي عانت فيها الأسواق العالمية من تضخم حاد وأزمات في سلاسل التوريد بعد جائحة كورونا، وهو أمر مشابه لما حدث بعد الحرب العالمية الثانية.
3- الأوبئة والجوائح التي اجتاحت البشرية عدة أوبئة مدمرة، لكن مع كل وباء، نجد أن الاستجابة تبدأ بالإنكار، ثم الذعر، ثم التدخل الطبي منها: الطاعون الأسود (1347-1351م) مات بسبه نحو ثلث سكان أوروبا بسبب نقص الوعي الصحي وغياب التدابير الوقائية. والإنفلونزا الإسبانية (1918-1920م) انتشرت عالميًا بسبب الحرب العالمية الأولى، تمامًا كما ساهمت العولمة في انتشار فيروس كورونا (2019- 2020م). وفي كل مرة، يتأخر العالم في التعامل مع هذه الأوبئة، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي في الطب.
4- صعود وسقوط الدول والحضارات، إذ إن دورات صعود وسقوط الدول والحضارات ظاهرة متكررة عبر التاريخ، حيث تشهد الأمم والدول فترات ازدهار تليها فترات انحطاط وتراجع، فمثلا: كانت الإمبراطورية المغولية واحدة من أكبر الإمبراطوريات التي شهدها العالم، بدأت في التوسع في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، تحت قيادة جنكيز خان. وبحلول منتصف القرن الرابع عشر، بدأت الإمبراطورية في التفكك بسبب الصراعات الداخلية والنزاعات على الحكم بين ورثة جنكيز خان، وسقطت رسميًا في عام 1368م بعد أن استولى المتمردون الصينيون على العاصمة بكين، وأسسوا أسرة مينغ.
وكذلك سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية والذي حدث في عام 476م، عندما خُلع آخر إمبراطور روماني غربي، رومولوس أوغستولوس، على يد القائد الجرماني أودواكر. أما الإمبراطورية الرومانية الشرقية (الإمبراطورية البيزنطية): استمرت لفترة أطول وسقطت في عام 1453م. وكلتا الإمبراطوريتين سقطتا بسبب مجموعة من العوامل، مثل الفساد الداخلي، والتوسع الزائد عن القدرة في الإدارة، والأزمات الاقتصادية. ويمكن رؤية تأثيرات مشابهة في الاتحاد السوفيتي الذي انهار في عام 1991م نتيجة للفساد وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي. وقبل ذلك سقطت الخلافة الأموية والتي استمرت 90 عاماً في سنة 750م. بسبب تفاقم الانقسامات داخل البيت الأموي نفسه، حيث وقعت صراعات على السلطة بين أفراد الأسرة الحاكمة وانتشار الفساد في بعض فترات الحكم، والتوسع المفرط وصعوبة الإدارة مما أدى إلى ضعف الإدارة المركزية.
وسقطت الدولة العباسية بشكل رسمي بعد استمرارها في الحكم 508 سنة عندما استولى المغول على بغداد، عاصمة الدولة، في عام 1258م، وذلك لا سباب عديدة أهمها انشغال الخلفاء بالترف واللهو وابتعادهم عن شؤون الحكم، مما أدى إلى ضعف السلطة المركزية، وسيطرة قادة الجند الأتراك والفرس على مقاليد الحكم، وتحكمهم في الخلفاء، مما أضعف هيبة الخلافة. وهي المشاكل نفسها تقريبا التي واجهت الدولة العثمانية لاحقًا، مما أدى إلى انهيارها في عام 1923م. وفي سياق مختلف، تمتعت الإمبراطورية البريطانية بفترة من الاستعمار والهيمنة العالمية، لكنها بدأت في التراجع بعد الحرب العالمية الثانية، حيث فقدت العديد من مستعمراتها، وأصبحت تعتمد أكثر على التحالفات الدولية للبقاء في الصدارة. ويشبه التراجع النسبي للولايات المتحدة في النفوذ العالمي أمام صعود الصين، بالمشهد الذي حدث بين بريطانيا وألمانيا في بداية القرن العشرين. فالولايات المتحدة تواجه تحديات جديدة في الاقتصاد والسياسة الدولية، بينما تستثمر الصين بقوة في التكنولوجيا والبنية التحتية لتعزيز مكانتها. ومن هذه الأمثلة المتعددة، يمكن أن نستنتج أن صعود وسقوط الحضارات هو أهم درس يجب أن نتعلم منه؛ لأن التاريخ أثبت أن تكرار نفس الأخطاء يمكن أن يؤدي إلى نفس النتائج المحزنة.
وفي الختام، التاريخ ليس مجرد أحداث قديمة انتهت، بل هو خريطة لمستقبلنا، لأن من يفهم الماضي جيدًا، يستطيع تجنب تكرار الأخطاء، والاستفادة من النجاحات. لكن، هل سنتمكن حقًا من كسر هذه الدائرة، أم أننا سنظل ندور في فلك الأخطاء ذاتها؟ ولعل الإجابة تكمن في قدرتنا على التعلم والتطور. فإذا استطعنا أن نغرس في الأجيال القادمة أهمية دراسة التاريخ بموضوعية وتحليل أحداثه بعمق، فإننا نضع الأساس لمستقبل أكثر وعيًا وثباتًا؛ فتعليم التاريخ لا يصح أن يقتصر على سرد الوقائع، بل يجب أن يتضمن دروسًا عملية وتحليلات نقدية تساعد الطلاب على رؤية العواقب والتبعات. علاوة على ذلك، يمكن أن تكون التكنولوجيا أداة قوية في هذا السياق؛ فالذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات يمكن أن يقدما رؤى وتوقعات حول الأزمات المحتملة، مما يمنحنا فرصة للاستعداد والاستجابة بفاعلية، كما أن تعزيز الوعي الجماعي والحث على التفكير النقدي يمكن أن يساهما في بناء مجتمع أكثر حكمة وقدرة على اتخاذ قرارات صائبة.
بإمكاننا أن نستلهم من الماضي ونبني على نجاحاته، ونتعلم من إخفاقاته لتجنبها في المستقبل.
وفي النهاية، الأمر يعتمد علينا، هل نحن على استعداد لاستخلاص العبر من الماضي وتطبيق الدروس المستفادة؟ أم أننا سنظل نكرر نفس الأخطاء؟ الإجابة على هذا السؤال قد تحدد مصير الأجيال القادمة.