م. سطام بن عبدالله آل سعد
لا يُقاس نضج السوق العقاري بحجم الطلب أو وتيرة الأسعار، بل بمدى قدرته على عكس واقع اقتصادي منصف، وتوفير بيئة معيشية متوازنة لا تُقصي جيلًا ولا تُخضع المواطن لأوهام العرض الزائف.
فالسوق العقاري في المملكة اليوم يقف أمام مفترق طرق حاسم؛ إذ تتقاطع فيه طموحات الرؤية الوطنية مع اتساع رقعة التنمية العمرانية، في ظل تحديات تفرض ضرورة إعادة هيكلة المفاهيم الحاكمة للسوق، لا مجرد تنظيم أدواته.
وفي عمق هذا المشهد، تتجلى الإشكالية الأبرز في الفجوة بين المعروض الحقيقي والمعروض الوهمي، حيث تُسهم غالبية المنصات العقارية التجارية، ومن خلفها بعض الوسطاء والمضاربين، في خلق صورة مضللة من خلال إعادة تسويق العقارات ذاتها بأسعار متباينة، ما يولّد انطباعًا زائفًا بحركة نشطة وارتفاع مستمر.
هذه الديناميكية تغذّي طلبًا غير حقيقي، وتدفع المستهلكين نحو قرارات استثمارية قائمة على بيانات مشوشة، ما يفضي إلى تآكل الثقة، وتحويل السوق من أداة للتنمية إلى مصدر للقلق وعدم الاستقرار.
ومن هنا، جاءت التوجيهات الاستراتيجية التي أطلقها سمو ولي العهد -حفظه الله- لتشكّل منعطفًا نوعيًا في مسار الإصلاح العقاري، عبر توفير أراضٍ سكنية مخططة ومطورة للمواطنين شمال الرياض، وتحديد تسعيرة عادلة للمتر المربع لا تتجاوز 1500 ريال، إلى جانب فرض ضوابط صارمة للحد من التصرفات العشوائية في الأراضي الممنوحة.
وهي إجراءات لا تستهدف الأزمة السطحية فحسب، بل تضرب جذورها، وتعيد هيكلة السوق عبر تعزيز المعروض الواقعي المبني على تخطيط طويل الأمد واستدامة عمرانية.
ولأن إصلاح السوق لا يمكن أن يتحقق دون ترسيخ الشفافية كقيمة مؤسسية، وتحرير التعاملات من هيمنة الأنماط التقليدية والممارسات غير المنضبطة، حيث تتحول البيانات من أدوات بيد المضاربين إلى حقوق مكفولة للمواطنين، تبرز الحاجة إلى منصة رقمية متقدمة تدعم هذا التحول، كما أُشير إليه في مقال سابق بعنوان «مهلاً أيها العقار!» (أكتوبر 2024). وفي هذا الإطار، يُمثّل التوجيه المباشر من سمو ولي العهد للهيئة الملكية لتطوير مدينة الرياض بإنشاء منصة إلكترونية مخصصة لاستقبال طلبات الاستفادة من الأراضي مباشرة من المواطنين، دون الحاجة لأي وسطاء أو أطراف خارجية، خطوةً استراتيجية نحو شفافية السوق، وتحقيق تكافؤ الفرص، وبناء بيئة تعاملات قائمة على العدالة والتنظيم المؤسسي.
ويتزامن هذا التحول مع تحدٍ جوهري يواجه الجيل الشاب، والمتمثل في ضعف القدرة على التملك بسبب الفجوة المتسعة بين متوسط الدخل وأسعار العقارات. هذا الخلل أفرز ما يمكن وصفه بـ»اللاعدالة الجيلية»، فقد تراكمت الفرص في يد جيل مضى، بينما يُجبر الجيل الجديد على إما التنازل عن حلم السكن أو الارتهان لمديونيات طويلة.
ومن هنا، جاء القرار الكريم باشتراطات جديدة للتملك، ليعيد رسم مسار العدالة بين الأجيال، ويمنح الشباب فرصة حقيقية للوصول إلى السكن ضمن معايير واضحة ومنصفة.
إن إصلاح السوق العقاري يتطلب نموذجًا شموليًا يعيد بناء العلاقة بين المواطن والسكن على أسس من العدالة، والتوزيع الذكي، والشفافية المؤسسية.
وعند التمعّن في تفاصيل التحولات الأخيرة، يتضح أن الهدف لم يكن إطفاء أزمة آنية، بل هندسة سوق جديد أكثر توازنًا وشمولًا، وحين تكتمل ملامح هذا التحول، يعود العقار إلى وظيفته الأساسية: أداة استقرار ورفاه، لا وعاء احتكار ومضاربة.
** **
- مستشار التنمية المستدامة