د. محمد بن إبراهيم الملحم
سأتحدث اليوم عن القصة: قصة المسلسل وليست قصة الرواية؛ ذلك أن الاثنين ليسا شيئا واحدا، فلقد تجاوز المسلسل الرواية كثيرا لزيادة حلقاته وخُلقت شخصيات وأحداث جديدة، وأرى أن ذلك كان تصرفا «تجاريا» Commercial خارج نطاق السرد الأدبي، بل قد وقع نتيجة لذلك في عدة إشكالات، أولها التصرف الغبي الذي قام به الطبيب عندما لبس الغترة وذهب لمقابلة عزيزة في أحد أزقة شارع الأعشى، وقبل ذلك دخل إلى مقهى يطلب منه استخدام التلفون محاولا مكالمتها وكأنما هي محاولة لإعادة مشاهد الأفلام المصرية القديمة، في حين أننا علمنا مسبقا أن لديه تلفون في منزله، ولكنها الصنعة البائسة للمشهد، ولا شك أن كل مُشاهد استغرب من هذا الجزء من المسلسل ووجده شاذا لا قيمة له، فالطبيب الحكيم تحول فجأة إلى عاشق مجنون مع أننا رأينا عزيزة تعثر له صورة مع فتاة أخرى هي ربما خطيبته! (ولم نفهم سر هذه الصورة حتى الآن بالمناسبة!) وفي نفس الوقت هو الذي سرب لاحقا خبر أنها هربت من زوجها (زميل أبيها) بعد أن استخرج لها الجواز، لتستغل الجواز للهرب مع الطبيب، تناقضات تجعل من تلك المشاهد حشوا لاقيمة له ولا يمكن أن يهضم في الإطار السردي القصصي المعتبر.
وثاني الإشكالات زواج عواطف وابن عمتها، ذلك الشخص القروي البسيط والذي توقعناه سيسعدها لتنسى المدعو سعد، أو على الأقل لن يقع منه شر يؤذيها وهو ما عهدناه في زواج الأقارب، إذ يتشجع الآباء على تزويج ابنتهم لابن عمها أو ابن خالها لأنه الذي يصونها ويكرمها، بينما أظهرت هذه القصة البائسة ذلك الشخص في ثوب المجرم البشع المتهور والذي لا يحفظ لخاله قيمته فيتوسع في ظلم ابنته ويضربها حتى يجهض حملها! ونراه يخدع خاله بالاعتذار مقبلا رأس البنت ليأخذها لبيته ليذلها ويطلقها.
ربما سمعنا عن قصص مثل هذه ولكنها لا تكون أبدا بين أقارب بل من بعيد لا يعرفونه أهل البنت جيدا لتحصل هذه المأساة، ولا ننس أننا أمام أب حنون محب لبناته فهل هو لا يعلم عن ابن أخته أنه متهور لئيم الطباع فيزوجه! أمر مناقض تماما للصورة التي قدمت القصة بها الأب! ولقد ارتكبت القصة جريمة مماثلة في ذبح شخصية الأب عندما جعلته يصدر حكما على سعد بسبب خبر سمعه عند الحلاق فامتنع من تزويجها إياه!
ولا ننس أنه يفترض لهذا الأب أن يتقبل ذلك السبب «الديني» فهو رجل متدين لدرجة أن جماعة المسجد طلبوه إماما لهم عند غياب إمامهم! ومحاولة خلق حبكة غير مقنعة لأجل تغيير مسار القصة، هو فقر سردي إذ لم تتمكن كاتبة القصة من إيجاد حدث أقوى إقناعا يجعل المشاهد يسلم للأب فيما فعله ويعيش حالة الحيرة في أمر تصاريف الحياة، وكيف تتضافر الظروف لتجعل إنسانا رائعا مثل (سعد) غير مقبول للزواج، أقصد تصوروا معي لو كان السبب شيئا آخر غير ما ذكر، لكانت هذه الجزئية من القصة أكثر واقعية وإقناعا.
شخصية الفتاة عطوى (ونطقوها عطوة!) شخصية مفتعلة لا داعي لها فلو تخيلت مثلا قصة المسلسل بدونها فلن يتغير شيء في قصة المسلسل وقصتها الفرعية لا تتقاطع مع قصص الشخصيات الأخرى، ولا تمثل حبكة من نوع ما، وإن كنا قد توقعنا ذلك، خاصة أنها ظهرت في البداية بصورة شاب يسرق ويخفي وراءه أشياء مجهولة، فكنت تتوقع أن هنالك حكاية أخرى وسرا عميقا سيخرج من هذه الشخصية، لكنك تصاب بإحباط لاحقا عندما تجد أنه لا شيء وراءها سوى أن تقدم لنا قصة حب إضافية! بل إن هناك أيضا تناقضا آخرا، عندما نفهم ابتداء أن هذه الشخصية مصابة بعقدة عدم الاختلاط بالناس والخوف منهم نتيجة لما تعرضت له في الصغر، الأمر الذي ينعكس على مشاعرها لتصاب بالجفاف الذي صنعته قسوة الحياة، لكن مع الاسف فجأة تنقلب هذه الشخصية لتصبح عاشقة (وبدون تهيئة لذلك!)، بل تقع في حب من كان سببا في فضحها وإزعاجها المستمر، وكذلك الأمر مع ضاري الشخصية المتهورة، فجأة نجده يعشق فتاة متوحشة تسببت في سرقته وكان يضمر لها العداوة قبل قليل! كما أن ضاري الذي ضحى أخوه متعب من أجله فساهره في مرضه أثناء تنويمه بالمستشفى نجده ينافس أخاه الأكبر على هذه الفتاة، وهو أمر لا نتوقعه لرد الجميل أبدا خاصة في البيئة البدوية بين الإخوة، بل أننا نصاب بإحباط أمام مصادمة زواج ضاري لعادة متأصلة عند البدو وهي أن الإبن الأصغر لا يمكن أن يتزوج قبل أخيه الأكبر!
عموما الأحداث في هذه المنطقة من المسلسل، أقصد منطقة ما بعد الرواية كلها تعج بالإصطناع والتأليف الهش، أما المنطقة التي تقاطع فيها المسلسل مع الرواية فلا أشك أنها قد تقدم وصفا للحياة الاجتماعية في الرياض، ولكنها تبالغ في تصوير حالة العلاقات بين البنات والأولاد وخاصة جرأة البنات وهو الأمر الذي يخالف الحقائق الثابتة فهذه الجرأة وأن وجدت فهي نادرة جدا وعند فئة لا يمكن أن تذكر وهو أمر طبيعي في كل مجتمع، ولكن الطريقة التي صورته بها الرواية زيفت صورة المجتمع السعودي مع الاسف، ولا يشفع للرواية أن عنوانها «غراميات» شارع الأعشى، كما لا يشفع لها أيضا كونها رواية من الخيال: فهذا الخيال مع الأسف وظف رموز الواقع كثيرا وهي رموز حقيقية ومعروفة ويكاد هذا الخيال أن يقول لنا إنه يقدم ذلك الواقع الذي عشناه قبل 55 سنة، سواء أقر صاحب العمل بذلك أو لم يقر به، فهو مستقر في شعور كل من يقرأ الرواية أو يشاهد المسلسل لأول وهلة، ولا شك أن العمل الأدبي ليس ملكا لصاحبه بعد نشره، وإنما هو ملك للقراء، وعندما يجمع غالبية القراء على شيء ما فسوف يكون هو هوية ذلك العمل سواء رضي بذلك صاحب العمل أم لم يرض، فقد خرج منه وأصبح ملكا لقرائه، وهذا ما قصده الناقد الفرنسي الكبير «رولان بارت» بنظريته الشهيرة حول «موت المؤلف» وماثله في ذلك أيضا الفيلسوف الفرنسي «ميشيل فوكو» ومن لم يسلم بهذه الحقيقة الأدبية الثابتة فإنه سيكون من جهة أخرى مقرا بأن العمل لصاحب العمل فقط ولا يستحق النشر..
أعذروني فهذه التناقضات جعلت من قصة المسلسل وجبة مزعجة جدا يكاد يغص منها الإنسان، إن المتعة التي يحصل عليها المشاهد في الحلقات الأولى لا تسير بنفس الوتيرة أو تتصاعد بما يجعل القصة متعة أخاذة، ولكنه يصاب بخيبة الأمل كل مرة ولا يجعله مستمرا في المتابعة إلا العوامل الفنية الأخرى مثل جمال الديكور والملابس والتمثيل والموسيقى الرائعة والبيئة التي تمثل شيئا من تاريخنا لا أكثر من ذلك.
** **
- مدير عام تعليم سابقاً