د. عبدالحق عزوزي
تعهدت الصين بمحاربة الإجراءات والتهديدات الجمركية الأمريكية «حتى النهاية»، بعدما لوح الرئيس دونالد ترامب بزيادة الرسوم على وارداتها بنسبة 50 %، إذا لم تسحب بكين إجراءاتها الانتقامية. وقد قام التصعيد المتبادل بإشعال الأسواق العالمية، وتراجع واضطرابات في أسواق الأسهم العالمية، كما أثار مخاوف جمة من تباطؤ اقتصادي عالمي. في المقابل، ناشد إيلون ماسك إدارة ترامب بالتراجع، فيما بادرت كندا وأوروبا إلى تحركات دبلوماسية لمواجهة تداعيات ما يُوصف بـ»أخطر جولة جمركية منذ عقود». ولكن هل الصين فاقدة لأوراق تجارية عالمية يمكنها أن تستغني عن السوق الأمريكية؟ منذ عدة سنوات، يقوم الرئيس الصيني شي جينبينغ بإنشاء طرق حرير جديدة. حيث بدأت مغامرة أول طريق للحرير مع ماركو بولو قبل نحو 1000 عام؛ وبمرور السنين، أصبح هذا البرنامج الاستثماري الضخم في البنية التحتية بمثابة السياسة الكبرى للدولة. ويمثل انضمام بعض الدول الأوروبية مثل إيطاليا، خطوة مهمة في تحقيق هذا المشروع الصيني الضخم.
وأضحت روما، وهي ثالث اقتصاد أوروبي، أولى أعضاء مجموعة السبع -التي تضم القوى الاقتصادية الغربية الرئيسة- التي تدعم مبادرة بكين. ولا جرم أنه مع القرار الإيطالي، يمد شي جينبينغ «طرقه» للحرير، وقد نجح الرئيس الصيني قبل ذلك في إقناع أزيد من سبعين دولة على النسخة الحديثة لهذا الممر الاقتصادي والتجاري. ويقوم العملاق الصيني بتغيير الخريطة الاقتصادية العالمية على جميع الأصعدة، من الحوكمة العالمية إلى القواعد التجارية مرورا باحترام البيئة وعمليات الاستثمار، من خلال توظيفه استثمارات كثيفة في جميع أنحاء العالم، ولا سيما في سياق مشروعه «طرق الحرير الجديدة»...
ويتكون مشروع بكين الطموح من قسم بري، ويتمثل في إنشاء وتمويل سكك حديدية بين الصين وأوروبا، وقسم بحري، يتمثل في استثمارات في عشرات الموانئ عبر العالم لتيسير التجارة الصينية.
ولا يظنن ظان أن التحركات الصينية تمر دون تخوف من الأوساط الأوروبية والدولية التي بدأت تنظر إلى التواجد الاقتصادي الصيني على أنه واقع يجب التعايش معه. فإن الأوروبيين مثلا يرون «بقلق إلى أن بنى تحتية إستراتيجية مهمة مثل شبكات الكهرباء أو خطوط القطارات فائقة السرعة أو المرافئ، لم تعد بأيد أوروبية بل صينية» «وأوروبا بحاجة ماسة إلى إستراتيجية حيال الصين». وكان الرئيس الفرنسي قد دعا إلى «استفاقة وإلى الدفاع عن سيادة أوروبية» بوجه بكين التي وصفتها المفوضية الأوروبية بأنها «غريم على جميع الأصعدة». كما أن وزير الخارجية الألماني قال لصحيفة «فيلت أم زونتاغ» الألمانية «في عالم يضم عمالقة مثل الصين وروسيا أو شركاءنا مثل الولايات المتحدة، لن يكون بوسعنا الاستمرار إن لم نكن متحدين كاتحاد أوروبي».
المهم من هذا كله أن دولة الصين استطاعت فهم العولمة والارتماء في مبانيها بذكاء ونجاح؛ فالدولة ليست بدولة ذات طابع «دعوي» تسعى إلى تصدير نموذجها التاريخي، كما فعلت وتفعل الدول الغربية كالولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا اللتين يسعيان إلى تصدير النموذج الغربي زاعمة أنه لا يمكن تحقيق اي نجاح دون المرور وامتلاك ليس فقط نموذجها الفكري والمجتمعي والثقافي بل أيضا نموذجها الاقتصادي والسياسي؛ فالصين، مادام أن أراضيها ومصالحها السيادية لا تمس بسوء، كانت ولا تزال دولة قائمة في سياستها الخارجية على عدم التدخل، والعمل بهدوء وعدم إثارة المشكلات، وتمؤسس لقاعدة مفادها بأن أي نجاح اقتصادي تحققه دولة، لا يعني ضرورة فشل الآخر أو حمله على الفشل في إطار ثنائية «صديق-عدو» وإنما في إطار «رابح-رابح» win-win
تسيير العالم حسب قواعد، وفي بعض الأحيان حسب أهواء القوى العالمية لم يعد ممكنا؛ والنظام الغربي في المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي لم يعد له نفس الجاذبية ونفس القدرة على التصدير الجاهز. فالصين والهند مثلا يحتاجان لوحدهما إلى الآلاف من الصفحات الجادة لفهم نظامهما الاقتصادي والسياسي والاجتماعي والثقافي. وتنجحان اليوم وباستمرار في التأثير على نظام عالمي بشكل مريح ودون صداع الرأس في تسيير شؤون العالم أي أنها تؤثر بأقل تكلفة، فلا تتدخل لا عسكريا ولا مخابراتيا ولا مؤسساتيا، ولكن تتدخل بقوتها الصناعية وبكفاءات أبنائها وبعوامل نموها الدائم، دون إشعار الآخر أيا كان بأنه موسوم بالأسفلية، بل إنه سيكون يكون رابحا في تعامله معها، وهذا هو سر نجاح من يجيد قراءة الساحة الدولية في عالمنا المعاصر.