إيمان حكيم
اعتدنا أن نبدأ يومنا بقائمة مهام، ونتنقّل بين الاجتماعات كمن يركض في سباق ماراثوني لا خط نهاية له.
نُتقن تنفيذ المطلوب، ننجز في الوقت المحدد، نراسل، نعلّق، نحدّث التقارير، ونُغلق اليوم بإحساس بالرضا.. أو على الأقل بشعور أننا “أنجزنا شيئًا”.
تتزاحم التفاصيل، وتتراكم الإنجازات، بينما تتوارى الأسئلة الكبرى بهدوء لصالح الأسئلة العاجلة. ومع ذلك، حين يهدأ الإيقاع قليلًا، وفي لحظة لا ضوضاء فيها، يتسلّل سؤال بسيط لكنه مربك: لماذا أفعل كل هذا؟ ليس من باب التمرّد، بل من باب الحاجة إلى فهم ما إذا كنا نعيش الحياة.. أم نؤديها فقط.
فثمة شيء يبدو أنه يتراجع بصمت. ليس الوقت، ولا الراحة، بل المعنى.. ذلك البُعد الخفي الذي يمنح الأفعال روحًا، ويمنح الإنجاز شكلاً يشبهنا. نتحرك، نخطط، نطوّر، ونتعلم، نعم. لكن في لحظات الصمت النادرة، حين نُغلق الأجهزة وتخفت الأصوات، يظهر السؤال مجددًا: هل كل ما أنجزته.. كان يحمل شيئًا من المعنى؟ ليست المشكلة في الإنجاز بحد ذاته، بل في تحوّله إلى غاية مستقلة عن الغاية. كأننا ننجز لننجز، لا لنتغيّر أو نقترب مما نريد.
ثمة ما يُشبه المسرحية الصامتة: نُجيد الحركات بدقة، نحفظ مواقعنا، نعرف متى نُومئ ومتى نُصفّق، لكن أحدًا لم يسلّمنا النص الكامل. نعمل بكفاءة، نعم. ونتقدّم. لكن ذلك لا يمنع شعورًا داخليًا بأن شيئًا ما ناقص، لا يُقاس بالأرقام، ولا يظهر في تقييم الأداء شيء يشبه المعنى.
ذلك الذي لا يُعلّق في لوحات الشرف، ولا يُطلب في العروض التقديمية، لكنه وحده قادر أن يجعل ما نفعله لا يمرّ بنا عبورًا، بل يصنعنا، ويُشبهنا.
المفارقة أن الأداء الممتاز تحوّل إلى غاية، لا وسيلة. مجرّد إتمام المهام بات نجاحًا كافيًا، حتى إن كانت تلك المهام لا ترتبط بأي قناعة داخلية.
نُحسن الحركة، لكن لا نملك دائمًا إجابة عن الاتجاه. نُراكم الإنجازات، لكننا نؤجل سؤال الجدوى إلى إشعار غير محدد.
ووسط هذا الانشغال المدروس، قد يتحوّل الإنسان إلى موظف مثالي في حياة لا يريدها، ومتفانٍ في مشروع لا يعنيه.
لسنا بحاجة إلى ثورة على الإنجاز، ولا إلى دعوة للتكاسل، لكننا ربما بحاجة إلى وقفة مراجعة لا يُقيّمها أحد، أن نسأل أنفسنا خارج السياقات المؤسسية: هل نُجيد العيش.. أم فقط نُحسن الأداء؟ وهل كل ما نُجيده.. نريده فعلًا؟ أم أننا عالقون في حلقة من الامتيازات الشكلية التي لا تُشبه قلوبنا؟ فبعض النجاحات، مهما لمع بريقها، لا تُضيء الداخل. وبعض الحماس، مهما بدا واعدًا، لا يقود إلا إلى مزيد من الركض المنظّم.
الوقت لا يُعاتب من يُحسن الأداء، لكنه يُفاجئ من نسي أن يتأكد إن كان يؤدي دوره في المسرحية الصحيحة. ولعلّنا نحتاج أن نُبطئ أحيانًا، لا لنقلل الإنجاز، بل لنُعيد ترتيب الأسئلة. فأسوأ ما قد يحدث للمرء.. أن يكون بارعًا في كل شيء، عدا أن يكون في الطريق الذي يُشبهه.