د.عوض بن إبراهيم ابن عقل العنزي
مدخل: صريف - شعورك في الاتجاه الصحيح
الانتماء إلى التعليم العالي مسلكٌ من المسالك التي حدثتْ في القرون المتأخرة لتطوير التَّلقّي العلمي، وتطوير سُبُلِ انتقال العلمِ بين الأجيال، ولا أعني بالأجيال انتقاله من حدِّ المعلِّمين انتماءً وظيفيًّا إلى حدِّ المتعلمين اشتغالًا دراسيًّا، بل أعني به انتقال العلمِ داخل الحدِّ الواحد، أي انتقاله من جيل المعلمين المتقدمين سنًّا وفضلًا إلى أولئكَ الذين يلونهم في السِّن ويخفضون لهم جناح التواضعُ.
وداخل هذا الانتماء للتعليم العالي حدٌّ آخرُ لا يقلُّ أهميّةً عن أصحاب الوصفين المتقدمين، بل هو منهما وفيهما ومظهرٌ من مظاهر انتقال العلم باللقيا من شخصٍ إلى شخص، وأقصد بذلك الملتحقين ببرامج الدراسات العليا؛ لأنَّ التحاقهم التحاقٌ بالتجربةِ الأكاديمية التي يلزم الاعتناء ببيانها، وسبلِ تجاوز عقباتها؛ إذ نرى كثيرًا من الدارسين يلتحق ثم تنفصم عراه، ويلقى في تجربته الأكاديمية شططًا، ويعاني تشظِّيًا وانهيارًا في داخله يدفعه إلى ترك الطلب، والتماس سبل الانفصال عن الدراسة؛ لكثرةِ ما وجده - مما لم يفقه سببه- من التعاسة.
والمطالعُ لأهداف التعليم الجامعي لا تُخطئ عينه مصطلحاتٍ مهمة من مثل: (الشعور بالرضا النفسي)، و(المواطن الصالح)، و(الكوادر الوطنية المؤهلة)، و(طريق تنمية المجتمع)، و(إبداء الرأي)، و(احترام الرأي)، و(نقل المعرفة).
وهذا النقل المعرفي اليوم استأثرت الجامعات بكثيرٍ منه لاعتنائها بسبل وأسباب إنجاحِ ثلاثةِ أهدافٍ هي:
- إيقاظ روحِ النهضة الحضارية.
- تخريج قادةٍ ومعلمين يحملون راية العلم.
- التدريب على روح البحث العلمي. (عبد الله التركي، الجامعة والمجتمع، 1400، ص 76-77)
ومن هذا التدريب على البحث العلمي تنطلق التجربة الأكاديمية؛ إذ إنّها ليست خطًّا بيانيًّا عليه محطات تُنعتُ بالدرجات، وليستْ ملفَّاتٍ تُنعتُ بالإنجازات، وليستْ صُحفًا تُجِدُّ متونها أقلامُها.
التجربةُ الأكاديمية ثقافة معاصرة تعني فيما تعنيه أنها:
- أسلوب الحياة داخل جماعة معيَّنة، أي إنها إطارٌ يحصُرُ السلوك في تلك الجماعة حتى تكون استجابات أفراده على نَسَقٍ واحد. (إبراهيم خورشيد، الثقافة،1979، ص5).
- وإذا نظرنا للتجربة الأكاديمية في عمقها سنجدها مجموعة من القيم والمفاهيم تحكمُ تصرُّفاتِ المعانقين لها بإطارٍ من تلك القيم والمفاهيم، وكأنَّها حينئذٍ ثقافة. (المرجع السابق)
- وفي تقديري أننا في التجربةِ الأكاديمية نستقبلُ مفهومًا كُلِّيًّا نتشظى في تعريفه وتمثيله وإنْ كُنَّا نلتزمُ بعمقه وقوانينه، ويشبه هذا التوصيف توصيف (تايلور) للثقافة حين يقول: «إنَّ الثقافة هي ذلك الكُلُّ المعقَّدُ الهائلُ الذي يتضمَّنُ المعرفة والعقيدة والفنَّ والأخلاق والقانون والعادة، وكلّ القدرات التي يكتسبها الإنسانُ باعتباره عضوًا في مجتمع».
إذن، التجربة الأكاديمية ثقافة، وأفرادها أعضاء في مجتمعها، ومجتمعها كلِّيٌّ خليطٌ من مسارب في الجنان، ومسالك في الأركان، ومسائل في الأذهان، تجمع بين ضيق القانون وسعة العادة في تصوُّرٍ غائيٍّ يُنتِجُ أكاديميًّا مُبتسمًا للحياة ملتزمًا بالمسار، لا أكاديميًّا متصنِّعًا للحياة مُلزَمًا بالمسار كالذي نشاهدُ بعضه في تطبيقاتٍ فردية لم تفهم معنى أنْ تكون التجربةُ الأكاديمية ثقافة.
التجربة الأكاديمية –في جوهرها– عالمٌ موازٍ للعالم اليومي، إذ إنَّ إنسان المعايشة اليومية: يلبسُ ويخرجُ ولا يُغادرُ ذاته، أما إنسانُ التجربةِ الأكاديمية فقد يبدأ من ذاته، ثم لا يعودُ إليها آخر الدَّهر.
والخلطُ بين العلم والثقافة لا يقدمُ حلًّا ولا يُطفئ ظمأ؛ لأنّ التجربة الأكاديمية تجربةٌ ثقافيَّة يمثِّلُ العلمُ عصبها النابض بالحياة، وجوهرها الذي يحكمُ بمفارقتها الثقافات الأخرى، والعلمُ هو أيضًا حياة ليست التجربةُ الأكاديمية إلا مظهرًا من المظاهر التي تبتغي أنْ تحمل حدَّهُ، لكن هيهات فهي إلى حدِّه بالرسم أقربُ من حدِّه بالماهيّة.
تبدأ التجربة الأكاديمية بقرار علميّ، وبلغةِ العصر: سألتحقُ ببرامج الدراسات العليا، لكنها قد تنتهي بخذلانٍ شخصيّ: لستُ أنا، لا أستطيع، لستُ في مستوى الأكاديمييين.
وقد تبدأ التجربة الأكاديمية بورقةِ بحث، تجمعُ فيها الأقوال، ثم ترتبها وتقول: أنجزت، ولكنها قد تفضي إلى خسارة الصوت، وارتباك الاتجاه.
وقد تبدأ التجربةُ الأكاديمية بأسئلة عن موضوعٍ معيَّن، وكلما أوغلتَ اطَّلعتَ على هوَّةِ ما فيك، ومسافات ما لابد أنْ تسير فيه لتصل إلى ما تبتغيه، ثم بك وبأسئلتك تتكشّف أنكَ كنتَ تسألُ عن نفسك، وتبحثُ عن تلك التي تعيش بين جنبيك ولا تراها، حينها تعلم أنَّ أسئلتك أسئلة عن الذات.
وقد جاءت استبانة «التجربة الأكاديمية» بنتائج مهمة لا لتقيس الرأي، بل لتستمع إلى الهمس، ولا لتمتحنَ النَّفس، بل لتفتحَ أبوابَ النَّفَس، وتطرح السؤال الجوهري: «ما الذي يحدث فيك حين تكتب بحثك؟» «من الذي يشاركك عقلك وقلمك؟ من الذي يؤذيكَ إذا آذيته ويرضيك إنْ أرحته وألنتَ له الكلام؟ ما الذي تجده حين تواجه دهاليز التجربة الأكاديمية على تلك الصحفِ البيضاء؟!
وإذا كان الفردُ حين يختار قراره ببدء التجربة الأكاديمية يُعلنُ بغير شعورٍ منه أنَّهُ في الطريق إلى اكتساب ثقافةٍ أخرى موازيةٍ لثقافة يومه، معيدةٍ لصياغةِ أهدافه، ومحددةٍ لأُطُرِ تقدُّمه؛ إنَّها ثقافة التجربةِ الأكاديمية.
هذه الثقافة المورودة ليست كالثقاقات العابرة أو الوافدة، هذه ثقافةٌ أدخلُ وأعمق، وأنقى وأطيب إذا صحَّ منك الودُّ فالكُلُّ هيِّنٌ، وليست كل الثقافات ثقافة واحدة.
قد يشعرُ الباحثُ حين الدخول في التجربة الأكاديمية أنَّهُ كما يقول (بوك): «عندما ينتقلُ للعيش مع جماعةٍ أخرى؛ فإنه يبدو عديم القُدرة على فهمِ تصرُّفاتِ أفراد المجتمع الجديد» (إدوارد هول، اللغة الصامتة، 1959، ص . وينظر: جان بوك، صدمة الثقافة، 1970، ص 9)، وهذا هو الذي يحدثُ فيه قلقًا كبيرًا.
وهنا نستذكر تلك المراحل الأربع التي بيّن فيه كلٌّ من (سبندلر) و(بورن) و(والس) مراحل اكتساب المرء ثقافةً أخرى غير ثقافته، وهي:
مرحلة توطيد علاقة الباحث بثقافته الأولى، ثم مرحلة التبرير لتقبُّل الثقافة الأكاديمية الجديدة بوصف ذلك التبرير رغبةً في البقاء، ثم مرحلةِ الذوبان في مجتمع التجربة الأكاديمية، ثم مرحلة الانسجام مع متطلبات الثقافة الجديدة (ثقافة التجربة الأكاديمية)، (ينظر: جان بوك، صدمة الثقافة، 1970، ص 9)
وبعد تأمل استبانةِ «التجربة الأكاديمية» يمكن قول ما يأتي:
أولًا: التجربة الأكاديمية ثقافةٌ أخرى تسكنك ولا ترحل إليها، إنّك لا تفارق مكانك، بل تُفارِقُ سلوكًا اعتدتَ عليه، ونمطًا من القضايا اليومية تآلفتَ معها، هذه الثقافةُ عالم موازٍ لا يُشبهك دائمًا.
كم عدد الباحثين الذين يكتبون نصوصًا لا تشبههم، بل تشبه رغبة الآخرين؟ وكم من مشروع علميّ، تظنُّ في ظاهرهُ «المنهج»، وإذ بك تكتشفُ أنَّ باطنهُ هو الرغبة في الفهم، أو الهرب، أو التبرير؟
اطمئن! أنت في بداية الطريق، وفي استبانة «التجربة الأكاديمية»، لم تكن الإجابات منصبّة على موضوع البحث أو الباحث، بل على صراع داخليٍّ يكشفُ ثغرةً في الشعور، من مثل:
- أشعر أنني لا أكتب صوتي.
- لا أدري إن كنت مقتنعًا بما أكتب.
- أكتب لأنني مجبر.
- أكتب لأنني أهرب من شيء آخر.
والمتأملُ في هذه الجمل القصيرة يظهر له أنّها ليست إجابات، بل مداخلُ لأسئلة أعمق.
ثانيًا: القلق... ليس مرضًا، بل ينظر إليه -أحيانًا- بوصفه شيئًا لا غنى عنه، « القلق الطبيعي هو الذي يمكن أن نطلق عليه القلق الصحي أو القلق الأساسي في حياة الإنسان، وهو القلق الذي لا غنى عنه، وهذا القلق لا يعوق حياة الإنسان ولا يعوّقها». (أشرف إبراهيم، 2014، ص 13).
وللقلق آثارٌ سلبية؛ إذ إن القلق ليس شكلًا واحدًا، و»يتمثل في آثاره النفسية أو الصحية، أو غيرها، وقد يكون متعلقا بالفرد، وقد يتعداه إلى من حوله من الأسرة. فالقلق يؤثر على تفكير الإنسان وتركيزه، ويشعر أثناءه بعدم الطمأنينة والاستقرار، مما يكون له مردود سلبي على حياة الإنسان الأسرية، والاجتماعية، وضعف التحصيل الدراسي والعلمي، وضعف الإنتاج، ويصبح الإنسان القلق مصابا بالإحباط، وعدم الثقة بالله عز وجل». (صالح صواب، 2007، ص7)
ربما ظنَّ بعضنا أنَّ القلق مخجلٌ دائمًا، ولذلك نخفيه تحت أسماء علمية: «تشتت»، «تعب»، «كثرة مهام»، لكن قلق التجربة الأكاديمية بما استبان ليس عائقًا خارجيًّا، بل يظهرُ أنّه خلل داخلي في إدراك معنى الكتابة، وتأملوا معي هذه الجمل:
- لماذا أكتب؟
- هل يستحق هذا الجهد؟
- ماذا بعد كل هذا؟
تنطق هذه الجمل بإيحاء يتبين منه أنّ القلق في التجربة الأكاديمية ليس من المشرف، ولا من اللجان، بل هو قلقٌ من النفس، من تلك الحقيقة الثاوية في جوف الإنسان؛ تضطرمُ فتكون صيفًا، وترتعش فتكون شتاءً، وكأن الباحث في تلك الجمل يقول: «أخاف ألّا أكون في نصّي.» وهنا، لا تكفي الدورات، ولا تكفي النماذج؛ بل لا بد من مشروع يرينا تلك الأنفس القلقة ضاحكةً مطمئنة على الطروس وبين فراغات الحروف.
ثالثًا: الهوية الأكاديمية بين الذات والصوت، تصلح هذه الجملة أنْ تكون عنوانًا لمقالةٍ أو محاضرةٍ جريئة في كشفها عن تمظهر الذات، وتمثُّلِ الصوت في تلك السطور والصحف الصامتة.
ربَّما يغلبني الأدبُ فألقي بكلماتٍ ليستْ -ربما- مدعمةً بوثائق وشواهد، لكنها تخرجُ من مشكاةِ صاحبٍ لكم في هذه الثقافة التي غيّرتْ كثيرًا فيه حتى أصبح اليوم يقلِّبُ صفحات حياته ليجد تلك المواقف التي هزَّته، وأزعجته، وتلك الأماني التي ما فتأتْ تمسح غبار الخوف عن جبينه، وتطبعُ قبلاتها عليه، ولذلك أجدني أقول: الهوية ليست في اسمك، ولا في عنوانك، بل في «النبرة» التي تشخِّصُ بها فكرتك، عندما تصبحُ نفسكَ طوعَ قلمك راغبةً لا رهبة فيها، تنساب منك إلى الصحف حاملةً على متنها ما جال في خاطرك، فتدفعك لكتابته كتابةً يسمعها كلُّ من يعرفُ قلق الكتابة واضطرام الحروق.
يعيشُ كثير من الباحثين ممنوعين من نبرتهم، أي إنهم يتمتعون بفقدان النبرة، فيكتبون كلماتٍ مرتّبة منسَّقةً ممتدةً على الزُّبُر والطروس، لكنها لا تقول عنهم شيئا، ولنتأمَّل قول أحدهم مجسِّمًا. تلك الغالية الغاوية (النبرة) في جملٍ تبكي وتصرخ:
- أفتقد صوتي الشخصي.
- لا أشعر أنني أكتب ما كنت أريد قوله.
- أكتب شيئًا لا يشبهني، لكنه يرضي الآخرين.
هل هذه الجمل تشعرك أنَّ من قالها عاش تجربة الكتابة الأكاديمية أم أنه استعار التجربة الأكاديمية قناعًٍا ليمرّ مشروعه (رسالةً أو بحث ترقيةٍ أو كتابًا) من المعايير مليئًا بالشوك حزينًا كشجرِ السرو «له رواءٌ وما له ثمرُ»؟
ختامًا: هذا الذي قدَّمته جهدُ مُقِلٍّ، لكنّه مرآةُ خِلّ، لا أبتغي فيه تقديم الجواب، بل أطرقُ في أسئلته الأبواب، باحثًا عن طريقٍ يعيدُ للباحث اهتمامه بنبرته، ويعيدُ فيه الأصول ليدرسها ويدريها فيُداريها، «إنَّ الأُصولَ عليها ينبُتُ الشَّجرُ».
بهذا قاربنا عرض هويّة الباحث وهو يكتب، واستنبطنا ثغرات الشعور لنردمها فنعيد الحياةَ في الثغور، وتهلهل الشعور في «التجربة الأكاديمية» ليس عيبًا، بل نداء يحتاج إلى تأمل وتطوير، لا إلى تقويم، وتعيير.
ربما أجد أنّي أهمسُ في أذنك: ليستُ «التجربة الأكاديمية» مشروعًا في رسالتين وأبحاث، وليست ثقافةً يمكنك التذاكي عليها، بل إنها مشروعُ إنسانٍ يسأل: من الرجل؟ ماذا يريد؟ لماذا كلُّ هذا المَشْق؟
غرستُ لكم شجرات الهوى
بأرضٍ أثار ثراها الجوى
وكُلُّ امرئ فله ما نوى
** **
- جامعة الحدود الشمالية