م. عبدالإله الطويان
كيف لنا أن نخلق لغةً حية، نابضة، غير مملة أو مكرورة، إذا كنا لا نقرأ؟ كيف لنا أن نوقظ مخيّلةً لا تعرف الحدود، ونفتح أمامها أبواب اللامتناهي، إذا كنا نعيش أسرى عاداتنا، محصورين في دوائر مغلقة لا تتسع إلا لمن يشبهنا ويؤكد لنا أننا على صواب؟ كيف نسمو ونحلق في سماء الفكر إذا كنا لا نصغي إلى الموسيقى الرفيعة، ولا ننصت إلى صمت الجبال وهمس البحار، ولا نرقص مع كتب تفتح أعيننا على أسرار الوجود؟
يذكر صاحب اللامنتمي كولن ولسون في سيرته:
«الكتاب هو جنة اللذة الفروسية وتوأم العوالم الساحرة التي لا تحدها حدود جغرافية أو ذهنية، ولا أظن أن كاتباً أو عالماً أو أي مشتغل في أي حقل معرفي لم يمسه مذ كان طفلاً ذلك المس الطهراني المقترن بهوس عشق القراءة والكتاب، وقد يحزن المرء وينتابه الكدر والغم إذا ألمت به ضائقة مالية أو صحية؛ ولكن لا أحسب هم المرء الشغوف بالكتاب إلا أعظم بكثير وعصياً على المقارنة مع أي هم سواه فيما لو فقد شغفه بالكتاب، وربما يناظر فقدان الشغف بالقراءة والكتاب حالة فقدان حبيب يسكن شغاف القلب» كولن ولسون.
من لا يقرأ، يختار أن يعيش حياةً سطحية، بلا عمق، بلا دهشة، بلا ذلك الشغف الذي يجعل العقل يشتعل والأسئلة تتفجر. وكما قال بورخيس ذات مرة: “أنا لا أستطيع تخيّل الجنة إلا على هيئة مكتبة.”، لأن الكتب ليست مجرد أوراق، بل نوافذ على عوالم لا تحصى، وأبواب تُفتح إلى حيوات لم نعشها بعد.
«يمكنني أن أتذكر الانفعالات التي ولّدتها اول الكتب في نفسي»، هكذا تجيب فرجينيا على سؤال مولدات المعرفة والعقل اليقظ . لعل من أكثر الأسئلة التي تتكرر لدى القرّاء، هي: كيف نتمكن من القراءة والاستفادة من المقروء؟ وكيف نمنع النسيان من ابتلاع ما قرأناه؟ لكن هذه الأسئلة، في جوهرها، تعكس فهماً قاصراً لمعنى القراءة ذاته. نحن لسنا مجرد مخازن للمعلومات، ولا مكتبات متنقلة تحفظ الفصول والفهارس وفق تقسيمات “ديوي” الشهيرة.
تقول فرانسوا ساغان: “لم أندم في حياتي على شيء، كما أندم على الكتب التي لن أتمكن من قراءتها كلها.” ولا شك أن الخبرات الإنسانية تؤكد أن القراءة والاختيارات الذكية فيها تعكس حياة الإنسان وتمنحها امتدادًا أعمق، فهي لا تطيل العمر فحسب، بل تضيف إليه طبقات من الفهم والمعرفة.
لكن من المهم التأكيد أن القراءة ليست مجرد تكديس للمعرفة، بل هي رحلة دائمة نحو جوهر المعنى. حتى العدمي، الذي يزعم أن الوجود عبثي، هو في جوهره يبحث عن معنى لهذا العبث! أما المجتمعات التي تعاني من نفور تجاه القراءة، فليست بالضرورة مجتمعات جاهلة، لكنها غالبًا ضحية تصورات جامدة صنعتها المؤسسات التعليمية التي لا تصنع إلا القليل من وهج القراءة والتفكير بها كقيمة متجردة عن ماهيتها ونهاية لغايتها، حيث يُعلى من قيمة الحفظ، بينما يُهمل البحث والتفكير النقدي. وكأن الفرد، بمجرد تعلمه القراءة والكتابة، لم يعد بحاجة إلى تجاوزهما نحو استكشاف أعمق.
القراءة ليست حفظًا صامتًا، بل هي إشعال للأسئلة، استفزازٌ للفكر، تحريرٌ للخيال من قوالبه الجاهزة. ومع ذلك، ليست كل قراءة تفكيرًا، وليست كل قراءة معرفة. القراءة الجادة لا تعني الحفظ الجاد، والقراءة المشككة التي تدعو للتساؤل لا تعني بالضرورة الثورة على كل شيء مختلف. إن تكديس المعلومات لا يوقظ الفكر، كما أن استهلاك المعرفة دون هضمها لا يصنع عقلاً واعيًا. لذا، فإن سؤال النسيان ذاته غير متناسق منطقيًا مع الفكر الخلّاق، لأن الفكرة التي تصنع أثرًا، لا تضيع حتى لو لم تبقَ تفاصيلها عالقة في الذهن.
لستُ هنا لأكون واعظاً أو قديساً للمعرفة أو داعية كسدنة المنابر، ولكن ما أتغياه هنا بأنه سواء أدركت فائدة القراءة في وقتها أم لم تدركها، فإنها تتراكم لتكوين عقل نقدي يقظ، عقل لا يقبل التربع على بُرج الهامش ولا التسليم بأفكار لا أساس لها. أنت تقرأ لأجل إنسانيتك التي لا تتحقق إلا بفعل الوجود المعرفي، وكلما ابتعدت عن القراءة، زادت وحشتك بجهلك بغموض هذا الكون وطلاسم الوجود وعِلل الزمان وسواد المكان وبالنتيجة فإن العقل تقدميي والمعرفة مستمرة.
ربما، في عالم آخر، عالم غير عالمنا، يتحدث الكتاب الصامت، ويُدافع عن نفسه وعن قارئه، يطالب بحقه في أن يكون صوتًا، لا مجرد صفحات تُطوى وتُنسى. كما قال غابرييل غارسيا ماركيز: “الكتب لا تموت أبدًا. كل كتاب يملك روحًا، روح الشخص الذي كتبه، وروح القارئ الذي قرأه وحلمه به.”
الكتب ليست مجرد كلمات تُقرأ ثم تُنسى، بل هي كيانات حيّة، تتسلل إلى العقل، تغير طريقة تفكيرنا، تمنحنا بوصلة لفهم هذا العالم بكل تعقيداته. ومن المؤسف أنه هذا ما صنعه عصر السرعة والاستهلاك السريع، تحولت القراءة عند البعض إلى مجرد رقم، إلى تحدٍ آخر في قائمة الإنجازات. كم كتابًا قرأت هذا الشهر؟ هل أنهيت هذا الكتاب في يومين؟ وكأن المعرفة تُقاس بالكمّ، وكأن الكتب وجبات سريعة تُبتلع دون أن تُهضم. لكن القراءة الحقيقية ليست سباقًا، بل هي تجربة غامرة، تحتاج إلى وقت، إلى تأمل، إلى أن نعيش مع الكتاب ونتركه يعيش فينا.
تذكر فرجينيا وولف: “الكتب تفتح قلوبنا وعقولنا، لكنها لا تُقدّم نفسها لنا إلا إذا كنا مستعدين لاستقبالها.”، والقراءة ليست مجرد عادة، بل هي فعل تحوّل، فعل ثورة على الجهل، فعل ارتقاء بالروح والعقل معًا.
القراءة ليست مجرد متعة، إنها سفر. ليست مجرد معرفة، إنها انفتاح على احتمالات لا تنتهي. كما قال هيرمان هيسه: “الكتب تأخذك إلى حيث لم تكن تخطط للذهاب، ولكن حيث يجب أن تكون.”
كل كتاب نقرؤه يعيد تشكيل وعينا، يضعنا أمام أسئلة لم نكن نجرؤ على طرحها، يأخذنا إلى أماكن لم نكن نظن أننا سنصل إليها. إنها تجربة تحررية بامتياز، تحطم جدران العزلة، تزيل الغشاوة عن الأعين، وتمنحنا القدرة على رؤية العالم من زوايا جديدة.
كل قارئ حقيقي يعيش بشعور داخلي مقلق: الخوف من أن تنتهي الحياة قبل أن يقرأ كل ما يريد قراءته. إنها الغصّة التي تلاحقنا كلما مررنا أمام مكتبة، كلما تصفحنا قائمة الكتب التي ما زلنا نريد قراءتها. العمر محدود، لكن المعرفة لا نهائية.
كما يذكر ميلان كونديرا: “الحياة هي مكان يتلاشى فيه كل شيء، أما الكتب فهي المكان الوحيد الذي يمكن للأشياء أن تعيش فيه إلى الأبد.”، فكيف يمكن لنا أن نعيش دون أن نترك أثراً في هذا العالم، دون أن نحفر بصمتنا في الذاكرة الإنسانية؟
هناك من يختار أن يعيش حياته كأيقونة فارغة، مجرد حضور بلا معنى، وهناك من يحوّل حياته إلى ملحمة مليئة بالشغف، بالبحث، بالأسئلة التي لا تنتهي. القراءة هي الفارق بين الاثنين.
إذا كنت لا تقرأ، فأنت تعيش بوعي محدود، بخيال مقيّد، بأفق ضيق. أما إذا كنت قارئًا، فأنت تعرف أن كل كتاب هو بوابة إلى عالم جديد، إلى فكرة لم تخطر لك من قبل، إلى شعور لم تجربه بعد.
الكتب ليست مجرد رفوف مكدسة، بل هي حياة أخرى تُضاف إلى حياتنا. فهل سنكون مجرد عابرين؟ أم أننا سنحمل معنا هذا الزاد، ونترك أثرًا يخلدنا حتى بعد أن نرحل؟