د.عبد العزيز سليمان العبودي
يتجاوز مفهوم الشبع عن امتلاء المعدة بالطعام، بل يمتد إلى جوانب أخرى في حياة الإنسان. وكما أن الجوع قد يدفع إلى سلوكيات سيئة، فإن الشبع الزائد قد يؤدي إلى تصرفات غير مرغوبة. لذلك يتناول الإسلام مفهوم الشبع من زاوية الاعتدال، إذ يقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «بحسب ابن آدم لُقيمات يُقِمْنَ صلبه، فإن كان لا محالةَ فثلثٌ لطعامه، وثلثٌ لشرابه، وثلثٌ لنَفَسه». فالأكل ليس غاية، بل وسيلة لحفظ الصحة واستمرار الحياة. وقد أكد القرآن الكريم ذلك بقوله: «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ» (الأعراف: 31). لكن الإنسان بطبعه يميل إلى تجاوز الحد، فيحوِّل الطعام من وسيلة إلى غاية، فتثقله معدته وتضعف طاقته.
ويمتد مفهوم الشبع إلى شبع المال والجاه والشهوة. فالمال في جوهره وسيلة لتحقيق الاستقرار، لكنه قد يتحول إلى غاية تُلحق الضرر بصاحبه ومن حوله. قال النبي -عليه السلام: «لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى لهما ثالثًا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب».
فحب التملك قد يؤدي إلى دوامة لا تنتهي من الطمع والخوف من الفقدان. وكما قال الفيلسوف اليوناني سقراط: «سر السعادة ليس في السعي لامتلاك المزيد، بل في القدرة على الاستمتاع بالقليل»، وهذا يتماشى مع مفهوم القناعة في الإسلام. أما الملذات، فهي جزء من طبيعة الإنسان، لكن الإفراط فيها قد يجردها من معناها الأصلي، حيث يقل تأثيرها الإيجابي مع التكرار، مما يدفع إلى البحث عن محفزات جديدة. فمن أدمن اللذات طوَّق نفسه بسلاسل من ذهب، ومن لم يملك شهوته ملكته.
ومن أنواع الشبع أيضًا شبع الجاه والسلطة والشهرة، حيث يسعى البعض إلى مزيد من النفوذ ولو كان ذلك على حساب صحتهم أو الآخرين. وقد قيل: «من طلب الرياسة هلك»، في إشارة إلى أن التعلق بالمنصب قد يؤدي إلى الهلاك الأخلاقي والروحي. كما أن شهوة الجاه قد تدفع الإنسان للتخلي عن مبادئه حفاظًا على مكانته. يؤكد عالم النفس ديفيد ماكليلاند أن «الحاجة إلى القوة تعد من أقوى المحركات السلوكية لدى بعض الأفراد، لكن عندما تتحول إلى هوس، فإنها تقود إلى الاستبداد والفساد».
وهذا ما يفسر كيف أن بعض المشاهير، رغم نفوذهم الواسع، ينتهي بهم الأمر إلى العزلة والخوف من فقدان المكانة.
كذلك يلعب الشبع العاطفي دورًا مهمًا في استقرار النفس، لكن البحث الدائم عن الحب والتقدير قد يولّد شعورًا بالاحتياج والقلق. وتشير الأبحاث إلى أن التوازن العاطفي يساعد في مواجهة الضغوط بالاعتماد على مصادر داخلية للطمأنينة؛ أما الشبع الاجتماعي، فيرتبط برغبة الإنسان في بناء علاقات تعزز انتماءه، لكن السعي المفرط للقبول قد يدفع البعض إلى التنازل عن مبادئهم. وكما قال آبراهام ماسلو: «إن الحاجة إلى الانتماء من أقوى الحاجات الإنسانية، لكن البحث المستمر عن القبول قد يؤدي إلى فقدان الهوية الذاتية».
ومع تطور المجتمعات، أصبح الشبع أكثر تعقيدًا، فلم يَعُد يقتصر على الحاجات الأساسية، بل شمل شبع المعرفة والمعلومات. ففي عصر الانفجار المعلوماتي، يتعرض الإنسان لكمٍّ هائل من البيانات يوميًا، مما قد يؤدي إلى التخمة المعرفية، حيث يفقد القدرة على التمييز بين المفيد وغير المفيد. فالمعرفة الزائدة دون وعي قد تؤدي إلى الارتباك بدلًا من الحكمة. وكما قال الفيلسوف مونتسكيو: «المعرفة من دون حكمة قد تكون أكثر ضررًا من الجهل»، ومع توسع وسائل التواصل والمصادر الرقمية، بات من الضروري تبني منهج انتقائي في استهلاك المعرفة، يركز على الجوهر لا التفاصيل غير الضرورية.
ومقابل الشبع المادي، هناك شبع الروح بالقناعة، حيث لا تقاس السعادة بحجم الممتلكات، بل بالرضا. وكما قال كونفوشيوس: «الرجل الحكيم يرضى بالقليل، لأنه يعلم أن السعادة ليست في الامتلاك، بل في الرضا». فالتوازن بين الشبع والاحتياج هو مفتاح الحياة الهانئة. فمن شبع من الطعام أصابه الخمول، ومن زاد ماله اشتد طمعه وخوفه من الفقد، ومن أسرف في المتع فقد إحساسه بلذتها، ومن تعلّق بالسلطة عاش في قلق وارتياب. والحكمة ليست في الحرمان، بل في الاعتدال، حيث يصبح الأكل والمال وسيلة للحياة لا عبئًا عليها. فالسعيد حقًا ليس من امتلأ بالماديات، بل من امتلأت روحه بالقناعة والرضا.
وقد كان هذا الموضوع حاضرًا في العديد من الأعمال الروائية العالمية. فقد تناولت روايتا الجوع لكنوت هامسون والبؤساء لفيكتور هوغو تجربة الجوع والفقر بعمق. تعكس الرواية الأولى الصراع بين الاحتياجات المادية والكرامة الشخصية، مما يجعل الشبع أكثر من مجرد حالة جسدية، بل هدف نفسي أيضًا.
أما الرواية الثانية، فتسلط الضوء على الجوع المادي والمعنوي، حيث يضطر جان فالجان في بداية حياته إلى سرقة رغيف خبز لسد جوعه، لكنه يسعى لاحقًا إلى تحقيق نوع آخر من الشبع، يتمثل في الإشباع الروحي والإنساني عبر فعل الخير والرحم ة. من جهة أخرى، تستعرض رواية 1984 لجورج أورويل مفهوم الجوع إلى الحرية والتفكير المستقل في ظل نظام استبدادي، حيث يصبح الشبع الفكري والروحي أمرًا يكاد يكون مستحيلًا. أما رواية البحث عن الزمن المفقود لمارسيل بروست، فتركز على الشبع العاطفي والوجداني من خلال الذكريات والرغبة في استعادة لحظات الفرح والرضا. وبشكل مشابه، تناقش رواية الأخوة كارامازوف لفيودور دوستويفسكي فكرة الجوع الروحي والشبع الإيماني، حيث تواجه الشخصيات صراعات عميقة بين الإيمان والشك والرغبات المادية.
مفهوم الشبع متداخل بين الجسد والعقل والروح، فلا يمكن تحقيق السعادة الحقيقية إلا من خلال إيجاد توازن بين هذه الجوانب. فكما أن الجوع الشديد يؤذي الإنسان، فإن الشبع المفرط قد تكون له آثار سلبية أيضًا. لذلك، فإن الاعتدال هو المفتاح لحياة صحية ومتزنة، تحقق جودة الحياة. وهذا التوازن يحتاج إلى وعي دائم وإرادة قوية للسيطرة على الرغبات وتوجيهها نحو ما يلبي الحاجات الجسدية والروحية.