عبدالله العولقي
من غرفة متواضعة ضيقة تقع في الدور الأول من إحدى بنايات سوق واجف في العاصمة الكويتية كان الشاعر إبراهيم العسكر قد اختار حبسه الاختياري بعد أن كف بصره وأصبح مثل أبي العلاء المعري رهين المحبسين، لم تكن له سلوى في هذا المكان الموحش إلا قصائده التي ينشدها مع ذاته المثقلة بالألم ويبعثها إلى بعض الصحف والمجلات في الكويت والعراق ومصر، أما أشعاره الحزينة التي كان يرسلها إلى أقاربه وأصدقائه فقد كان الإهمال مصير بعضها لولا جهود صديقه ورفيق دربه الأستاذ عبدالله زكريا الأنصاري في البحث عنها وجمعها وترتيبها ثم إصدارها في كتاب رائع يحمل عنوان (فهد العسكر، حياته وشعره) ولولا هذه الجهود المثمرة لما تبقى من هذه القصائد شيئا ولكان مصير الشاعر وأدبه إلى غياهب النسيان!
لو فتشنا في سيرة فهد العسكر عن معادل معنوي لحياته لوجدناه يتجسد في معنى المأساة بكل ما تحمله من معنى، وإذا بحثنا عن صور تلك المأساة لوجدناها تتأصل واقعا عبر تقاطع شخصيته مع مآسي بعض الأدباء والشعراء العرب، فنجده مثلا محسوبا مع الشعراء الذين رحلوا مبكرا مثل طرفة بن العبد وأبي القاسم الشابي والتيجاني يوسف بشير وبدر شاكر السياب، فقد توفي تقريبا عن 34 عاما (1917م - 1951م) كما يتشابه مع الشاعر عبدالله البردوني بالعمى ومرض التدرن الرئوي الذي مات بسببه، ويتشابه أيضا مع الشاعر السوداني إدريس جماع برفضه للمجتمع ورفضهم له، إضافة إلى العزلة التي ضربها على نفسه حتى أصبحت نفسيته مريضة ومثقلة بالأسى والهموم وتقف قريبا على حافة الهلوسة والجنون!، كما يتشابه في انقلابه على الموروث الديني والاجتماعي واتهامه بالكفر والالحاد بالأديب عبدالله القصيمي!
تعود جذور أسرة العسكر الكويتية إلى نجد في قلب الجزيرة العربية، وتحديدا من مدينة الرياض كما يذكر الأنصاري في كتابه، وكان جده محمد بن عبدالله بن علي العسكر تاجرا للمواشي، مرتبطا بتجارة الإبل والغنم بين نجد والكويت، ثم آثر أخيراً أن يستقر به الحال مع أسرته في مدينة الكويت التي كانت تشهد حركة تجارية رائعة في ذلك الوقت فكانت مقرا له ولأعماله، وفي هذه المدينة الساحلية الجميلة ولد شاعرنا فهد العسكر في منطقة تسمى سكة عنزة، حيث نشأ في بيئة دينية محافظة فكان ينظم القصائد الدينية التقليدية المتواكبة مع المناسبات السنوية كالمولد النبوي والأعياد الرسمية، إلا أنه في مرحلة المراهقة بدأت تظهر عليه إمارات الرغبة العارمة في الجنوح والتمرد غير المنضبط على القراءات التقليدية للأدب والشعر، فوجد في نفسه ميولا قوية تجاه الاطلاع على المزيد من القراءات المنفتحة التي لم تكن تتلاءم حينها مع مجتمعه المنغلق، ومن هنا بدأ التمرد الفكري في داخله يتصادم بشكل مباشر مع مجتمعه المحافظ في الخارج، فقد كان للمجلات الأدبية الصادرة من القاهرة وبيروت ودمشق وبغداد أثر كبير على تغيره الفكري أولا ثم تمرده الثقافي على مجتمعه ثانيا!
لو تأملنا حول القاسم المشترك بين قصائده وأعماله الشعرية لوجدناه يرتكز على التذمر والشكوى من الوضع السائد، فقد كان يتشارك في هذه الرؤية الحادة مع الشاعر أبي العلاء المعري في التشاؤم إلى أبعد حد من الحياة والأوضاع السائدة:
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطا مشاها
فنجده يقول في قصيدة شهيرة له:
ماذا أقول وإن شكوت فمن
جور القضاء وقسوة القدر
الصدر منقبض، ولا عجب
والنفس نهب الهم والضجر
ثم يقول هازئا متهكما وبصورة صادمة للمتلقي عندما يصنع مفارقة نفسية تتناقض مع طبيعة الإنسان الذي يحيي الشروق ويودع الشمس إذا غربت، أما شاعرنا صاحب الغرابة الإبداعية فـيقول:
ما لي أحيي الشمس مغتبطا
عند الغروب بأروع السور
ما لي أودعها إذا طلعت
بمدامعي وأعود للكدر
هذه الغرابة في السلوك البشري نجدها انعكاسا للتضاد الذي يجده الشاعر في داخله من أفكار وقناعات أصبح مؤمنا ومتمسكا بها، وبين واقع الخارج المجتمعي المحافظ الذي يعيش فيه ويتناقض كليا مع ذلك الداخل المتألم، وهذا الانعكاس السلوكي نجده في تاريخنا الأدبي بصورة أخرى عند بعض الشعراء العرب الذين تمردوا على العرف الاجتماعي فأصبحوا يعيشون منفردين في البوادي والفلوات، فأصبح نظام سلوكهم الداخلي لا يتواءم مع طبيعة نظام المجتمع الخارجي، ومع تباين الحالة الاجتماعية بصورة كبيرة في هذه المقارنة إلا أن حديث التشابه هنا يرتكز تحديدا حول التوحد النفسي الاختياري والخروج عن السياق المجتمعي العام حيث يصنع الشاعر فهد العسكر من خلال هذا التوحد النفسي حالة من الغربة الموحشة والمفارقة النفسية السلوكية التي لا تختلف كثيرا عن الغربة التي كان يجدها الأحيمر السعدي عندما كان يعبر عن ذلك الانعكاس السلوكي الذي يجيش في داخله كتغرب عن مجتمعه العام حين يقول:
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى
وصوت إنسان فكدت أطير
وهكذا آثر فهد العسكر أن يقبع حياته في غربة نفسية متوحدة داخل غرفة ضيقة مظلمة مستوحشا من الناس الذين لم يستطع أن يفهمهم ولم يستطيعوا أن يتفهموا فكره وشعره!.
وإذا عدنا إلى قصيدة العسكر السابقة لوجدنا التشاؤم يبلغ منتهاه في قوله:
ما لي أرى الغربان طائرة
والصقر دامي القلب لم يطر
وهنا يأتي اختياره الذهني في الجمع بين الغراب/ الصقر كون الصقر الذي رمزه لذاته رمزا للشموخ والإباء في الثقافة العربية، تماما كما يقول مواطنه الشاعر صقر الشبيب الذي يشبهه في بعض معاني شعره:
ولكني - كما سميت - صقرا
وهل أبصرت ذلا في الصقور؟
أما تشاؤم العسكر ومآسيه النفسية فقد يصورها في بعض الأحايين بقالب من الكوميديا الساخرة:
سرق ابن آوى ديكنا سحرا
ودجاجنا منه على خطر
والفأر يشرب بيضها طربا
أبدا، فيا لتبلبل الفكر
إن جعت يا صياد ويحك لا
تتعب وخل الطير في الشجر
وتعال حدثنا وصل بنا
وأكل كغيرك أطيب الثمر
وفي فن الوصف نجده شاعرا رومانسيا متشائما يذكرنا في بعض الأحيان بأبي القاسم الشابي، كقصيدة الشاعر والغروب أو قصيدة على الشاطئ، حيث نلمح نفس شعراء أبولو بصورة كبيرة، ونفس أبي القاسم الشابي على وجه الخصوص، فنجده يقول:
أيهذا الشاعر المغترب الباكي أصيلا
حسبك الله تجلد واتئد واهدأ قليلا
وأصخ لي واتخذني يا أخا البؤس خليلا
فكلانا لم يجد إلا الآل سبيلا
ويقول أيضا:
يا نديمي في صبايا أنت يا ملهى الصبايا
أنت يا مهد هواها ورؤاها وهوايا
أنت يا ملهم قلبي الشعر، جددت أسايا
وبعثت الحب ولهفي على تلك البقايا
كما عرف العسكر بولعه بتخميس بعض القصائد الشهيرة التي كان يعجب بها، فقد قام مثلا بتخميس بعض أبيات من قصيدة أبي الطيب المتنبي (عيد بأية حال عدت يا عيد)، وكذلك بعض قصائد أحمد شوقي، فنجده مثلا يقول:
يا عيد عدت، فأين الروض والعود؟
وا لهف نفسي، وأين الروح والغيد؟
بل أين أحباب قلبي؟ والمواعيد
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد
ويقول في تخميس قصيدة شوقي الشهيرة يا جارة الوادي:
إني أحبك كم عذول لامني
كم مرة بالنوم طيفك زارني
شرك الجمال لقيته فاصطادني
يا جارة الوادي طربت وعادني
ما يشبه الأحلام من ذكراك
وفي الختام.. فهد العسكر شاعر مطبوع، غزير الإنتاج، غلبه التشاؤم في حياته بسبب تصادمه الفكري العنيف مع المجتمع فأصبح لا يهتم بجمع قصائده وأعماله الشعرية فضاع عديد منها، وقد صدر ديوانه في عدة طبعات نشره صديقه عبدالله زكريا الأنصاري، ففي كل طبعة جديدة كان الباحث يضيف قصائد جديدة للشاعر حتى إنك لتجد الطبعة الخامسة تختلف كثيرا عن الطبعة الأولى من حيث حجم القصائد، وشعره على العموم يصور حياته البائسة ويعكس بكل وضوح نمط مجتمعه الذي كان يعيش فيه من وجهة نظره الحادة:
صهرت في قدح الصهباء أحزاني
وصغت من ذوبها شعري وألحاني
وبت في غلس الظلماء أرسلها
من غور روحي، ومن أعماق وجداني
أما علاقة فهد العسكر مع المأساة فتذكرنا بالمفكر الفرنسي جان جاك روسو الذي يقول لقد ضربت صك مأساتي عندما أعلنت عن أفكاري ومبادئي، وهكذا هو حال فهد العسكر الذي تحول فكرياً بعنف من التدين المتشدد إلى التحرر غير المنضبط، هذا التحول الحاد خلق تصادما فكرياً بينه وبين البيئة التي كان يعيش فيها، ومن غرائب حياته أن مأساته لم تقف عند حد وفاته فحسب، بل استمرت تلاحقه حتى بعد مماته، وتحديدا من الأشخاص الذين تسلموا صندوقه الشخصي بعد وفاته وفيه كومة من الأوراق التي تتضمن عددا من قصائده وشعره التي قالها في أخريات حياته داخل غرفته فلم يسعفهم الفكر إلى أن يقدموها لأحد الباحثين المهتمين بالأدب الكويتي، بل قرروا على الفور ودون أي تردد إحراق هذا الكنز الثمين، وبهذا انتهت مأساة شاعر مطبوع يعد من أهم شعراء الجزيرة العربية.