د. شاهر النهاري
تراث كرم عرب الجزيرة العربية مضربٌ للمثل، والإنسان السعودي يظل يشعر بالقصور، إذا لم يقدم الواجب لكل ضيف وقريب وحبيب وصديق، وحتى لو لم يكن ذلك باقتداره الحقيقي، وحتى لو استلف ثمن الذبيحة.
ثقافة عربية متوارثة عاشت في الجينات، وحتى مع تغير العقول والظروف الحالية، وارتفاع تكاليف الحياة، والتهاب الأسعار، يحاول السعودي القيام بأتم الواجب عليه، ولو بين كل فترة وفترة، وبتغييرات قد يعتبرها البعض متواكبة مع الظروف، وقد يشعر البعض أنها أقل مما كان بالإمكان.
ثقافة كانت أهم ما يقابل به السعودي من يعرف من جيرة، ومحبين وأهل، وربما ممن لا يعرفهم، بمجرد لقاء صدفة لمن يجده مميزا في عمل أو مكان، فتنطلق الدعوات الملزمة، وربما بلوغ الطلاق والتحريم، بدعوة لتناول وجبة، ووالله إن تموت ذبيحتك، ولو لم توافق، فإنه يرسل لك الذبيحة، وما يلزم، إلى مكانك!
عادة كرم، ومشاعر طيبة، لولا أنها في السابق تحمل بعض التعني، والجهد، والكلفة، وتخضع للرياء، حتى لو لم يكن مع حاتم فرس في حينها.
السمعة بين القبائل كانت الأساس، تسير بها الركبان للأصقاع، والعوزة كانت تكسر من لا يجد، والاختباء من وجه الضيف منقصة، والجوع يحدو الشخص لقبول أي وليمة تعرض عليه، بنقص ذات اليد، وقلة المطاعم.
وتتعالى عصبيات المقامات ورد الكرامة بأحسن منها، فكان الشخص يفز غاضبا من على سفرة وليمة دعي إليها إن لم يكن فيها خروف سمين مفطح، وكم يستنكر التيس وتعاف وليمة الدجاج أو السمك، أو حتى جزء من الخروف!
البيت بستر أسراره، كان يعاني من صاحبه الكريم، حيث يكلف أهله بأكثر من استطاعتهم، ويجلب معه الضيوف فجأة، ويستنفر نار أهل بيته، وقهوتهم المهيلة، وبخورهم ونقص جمرهم، يقلبون المكان، ويطبخون ما يستر، حتى ولو اقترضوا من قريب وجار، واستعانوا بإمكانيات الحي لإنجاز المهمة العاجلة على أفضل وجه حفظا لماء وجه رب البيت.
كل ذلك كان يتم في الزمن القديم، وحتى القريب وقبل دخول أعين وعي المدنية، وارتفاع الأسعار، وتكالب الفواتير والمصاريف، ما يجعل السعودي العارف بأحواله يخفف من عمليات استقطاب الضيوف قدر استطاعته، وحساب ميزانية الشهر بالريال، فلا يضغط على أسرته وأطفاله، وفي بعض المواقف الصعبة يأخذ الضيف الطارئ إلى أقرب مطعم بخاري، دون تعسير على نفسه وأهله وميزانيته، مقاوما لغريزة الهياط.
هذا ما يتم عند متوسطي الدخل، وعند من يظل يحاول الجمع بين صفات الكرم القديمة، ومحاولات تهذيبها حسب معطياته الحقيقية، ودون مبالغة، أو كثرة شح وتشدد، وحتى لا تلتصق صفة البخل بسيرته بين من يعرفونه.
أما الطبقات الغنية، فينقسمون إلى أنواع، أولها الذي وجد نفسه في أسرة غنية، وأصول كرمه الممتدة والمكملة لتاريخ كبار أسرته، يعرف قيمة الريال، ولا تتورط في مناسبات ليست على جداول أعمالهم ومصالحهم، وربما يحضر ولائم ومناسبات كثيرة، معتبرا نفسه ضيفا عزيزا، ودون أن يفكر حتى في رد بعضها، إلا في يوم يكون عنده مناسبة ملزمة كبيرة، يجمع فيها من لهم حق عنده، ولا يبرزهم على صدر المجلس، ولا يكبرهم كما يفعلون له.
والنوع الثاني، حديث النعمة أتته ثروة فجائية، بوفاة أحد أقاربه، أو بيع بعارين أو ارتفاع قيمة أرض، فربما يسارع في نثر أمواله بنفس سرعة حصوله عليها، مبالغا بتعداد العزائم، وحجمها، ونوعية البوفيهات والذبائح، مجنون لا يقصد من ورائها إلا التفاخر والمظاهر وأخذ الصور وتعزيز قيمة الهياط، طوال فترة تخمته، وقبل أن يعود لطبعه القديم مجبرا.
والنوع الثالث، هو من يقوم على وظيفة حكومية مؤثرة، أو عمل تجاري مربح، فيحتجب عن الكثير من معارفه القدامى، ويصنع مجتمعا مرتبطا بالوظيفة، يخشى اختلال ملايينه، فيندر من يعرف طريق بيته، ولو حدث وجامل أحدهم، فلا يكون ذلك إلا بناء على مصلحة يرتجيها، وقد يتحايل باستغلال دعوة مفتوحة أهديت له من إحدى الجهات التابعة له، فيدعو بعض من لهم حق عليه بعد غربلة أشكالهم وثقافاتهم، لمنع الحرج.
النوع الرابع، هو من لديه القدرة، ولكنه يصر على بخله، ويظل يعيش فهلوة، يحضر كل مناسبة بقلب بارد، ويكون مستعدا للرد بطريقة مضحكة على كل من ينتقده، ودوما لا ينسى أن يغسل وجهه في أقرب صحن مرق.
النوع النادر، هو من لا يحمل هم كرم، ولكنه لا يمانع أن يستضيف من يحب، وفي أي وقت، ودون ترتيبات أو تكلفة، وهو من يدعو ضيفه على قليله، وعلى قطعة خبز ولحسة جبنة وفنجان شأي، بروح محب صادق يشعر فيها الضيف أنه في بيته.
التغير الحالي ماديا واجتماعيا عظيم في نفسيات وبيوت ومظاهر السعوديين، وليس كل سعودي قادر، وليس كل كريم يقابل من الآخرين بالكرم والتقدير، والظروف تستمر تحكم وتتحكم، ومفاهيم المجتمعات تتغير لدرجة تقاسم الفاتورة، والمصالح تطغى على مستويات مختلفة، وعادات وتقاليد الماضي تتحور حسب المفاهيم والإمكانيات، والأنفس المتبدلة، وحسب صراع الثقافات القديمة مع الواردة على مجتمعاتنا، فلا نعود نستغرب أن يدعونا أحدهم على أكلة سوشي، وقد ننظر عجبا في عينه، ونبتسم تكلفا وكأنه ذبح لنا حاشي.
مجتمعات الكرم السعودية تغيرت كثيرا، ولم تعد تنتقد بنفس القوة من لا يظهر كرمه شمسا، لمعرفة الجميع بأنه قد يكون معذورا، ليس في صعوبة إظهار كرمه فقط، ولكن في تقبل فكرة الكرم المبذر، وبنفس مفهومها القديم المنهك للجيوب والبيوت.