د. أحمد محمد القزعل
لقد مرّت العصور وتغيرت الأزمنة، ولكن حب أبي الطيب المتنبي ظل راسخاً في قلبي وقلوب عشاق الشعر العربي، لم يكن مجرد شاعر يُلقي الأبيات على الملأ، بل كان صوتاً يتحدث عن الطموح والعظمة، عن الحلم الذي لا ينكسر أمام العواصف، كلماته لم تكن مجرد ألفاظ بل كانت ناراً تشتعل في القلوب وأجنحة تحمل الإنسان إلى أعلى مراتب المجد.
ولكن يا أبا الطيب، هل كنتَ تعلم أن حبك سيصبح تهمة؟ أنك ستتحول من شاعر الثورة والطموح إلى شخص تُثار حوله الاتهامات.. لقد أحببناك؛ لأنك علمتنا كيف نؤمن بأنفسنا وكيف نحلم ونحن ندرك أن الأحلام تحتاج إلى قوة وإرادة لتحقيقها، علمتنا أن لا نقنع بالقليل، وأن نرتقي إلى مواقع النجوم؛ لأنه كما قلت:
إذا غامرتَ في شرف مرُوم
فلا تقنعْ بما دونَ النّجوم
فطعم الموت في أمر حقير
كطعم الموت في أمر عظيم
لقد كان شعرك ثورة على الواقع، وكلماتك سيفاً في وجه الجمود، ولذلك لم يسلم اسمك من الألسنة، واتُّهِمت بادعاء النبوة فقط لأنك كنت تؤمن بأن الإنسان يستطيع تجاوز ذاته وأن يكون سيد قدره يرتفع فوق الحدود المصطنعة التي يفرضها الضعف والخضوع، لكن الحقيقة أنك لم تدّع النبوة، ولم تقل يوماً إنك مرسل بوحي من السماء، لقد كان وحيك هو الحياة نفسها وكنت تقرأ الواقع بعيون الناقد، وترى البشر في ضعفهم وقوتهم وخنوعهم وثورتهم، فأطلقت العنان لشعرك ليكون صدى لأفكارك، وكما قلت لنا:
إذا كانت النفوس كباراً
تعبت في مرادها الأجسام
لقد فُتن الناس بك لأنك لم تكن كغيرك من الشعراء، لم تكن تكتب لمجرد المدح أو الهجاء، بل كنت تصنع فلسفة جديدة للحياة، كنت تدعو الإنسان إلى التحرر، إلى القوة، إلى المجد، ولهذا لم يسلم اسمك من الاتهام ولم يسلم حبك من الظلم.
ولقد عانى المتنبي من الاضطهاد والمطاردة بسبب أفكاره وطموحه، كما واجه حسد الحاسدين وتآمر الأعداء، لكنه لم يرضخ للظروف بل كان يرى في كل محنة فرصة لإثبات نفسه، كانت غربته وترحاله بين الملوك والأمراء بحثاً عن المكانة اللائقة به تجعله أكثر تصميماً على بلوغ المجد، فلم يكن مجرد شاعر بل كان فارساً يحارب بقلمه ولسانه ومؤمناً بأن العظمة لا تُوهب بل تُنتزع بالمثابرة والإرادة .
لم يكن سعي المتنبي للمجد مجرد حلم عابر، بل كان حقيقة كتبها بأبياته التي لا تزال تتردد حتى يومنا هذا، واستطاع بشعره أن يخلّد نفسه، فصار اسمه رمزاً للقوة والطموح، وكان شعره ملهماً لمن جاء بعده، فقد علم الأجيال أن الأمل لا ينفصل عن العمل وأن تحقيق الأحلام يتطلب مواجهة التحديات بشجاعة وهو القائل:
على قدر أهل العزم تأتي العزائم
وتأتي على قدر الكرام المكارم
لقد كنتَ يا أبا الطيب ترى الشعر رسالة، لا مجرد كلمات تُلقى في المجالس وكنت تؤمن أن الشعر قادر على بناء الأمم وتحريك الجيوش وزرع الأمل في القلوب التي أرهقها الاستسلام، ولهذا لم تكن نبيّاً، بل كنت مصلحاً وكنت صوتاً يصرخ في وجه الصمت، ونوراً يشق ظلام الدجى، ولقد ظُلمت كثيراً لقولي شعرك على الملأ وشعرك والله كله عندي حكم ومعان وأمل.
لكننا لم ننسك يا أبا الطيب، لم ننس شعرك الذي كان كالضياء في عتمة اليأس، لم ننس كيف كنت تعلمنا أن الأمل لا يموت وأن السعي هو الطريق الوحيد للنجاح، ولم ننس أنك كنت رجلاً سابقاً لعصره وزمانه، وأن كلماتك ستبقى حيّة تتردد في كل زمان، تحمل الأمل لكل من يؤمن بأن الحياة لا تُعاش إلا بالعظمة.