تغريد إبراهيم الطاسان
في زمنٍ تتسارع فيه الأحكام، وتُختزل التجارب في عناوين لامعة وتصنيفات عابرة، أصبحت الساحة الثقافية والفنية عرضة لاستهلاك مفرط للمقارنات السطحية التي لا تنصف أحدًا ولا تبني شيئًا.
تُقصى تجارب وتُلمّع أخرى، لا بناءً على القيمة أو العمق، بل وفق خطاب شعبوي يلهث خلف «الأفضل» لا «الأكثر أصالة».
في هذا المناخ المرتبك، لم تعد المنافسة محكومة بروح الإبداع، بل أُديرت بمنطق الأرقام والانطباعات السريعة، حتى أصبحت القيمة خاضعة لترند عابر أو انطباع متابع.
وهكذا، تُظلَم الحكايات، ويُغتال التنوع، وتضيق المساحة التي كان من المفترض أن تتّسع للجميع.
لقد تحوّلت المنافسة، في كثير من الأحيان، من كونها دافعًا للنمو، إلى حلبة تُشهر فيها مقاييس النجاح السطحية، وتُقصى من خلالها تجارب ثرية لمجرد أنها لا تشبه السائد أو لا تتماشى مع ذوق اللحظة.
ومن هنا يبرز السؤال الملح:
كيف يمكن الحفاظ على روح الإبداع وسط هذا الضجيج من المقارنات والانفعالات الآنية؟
في هذا الزمن الذي يعيش فيه المشهد الثقافي اضطرابًا في معاييره، بات من الضروري إعادة النظر في مفهوم (النجاح) وآلية تقييمه. فالساحة الإبداعية بطبيعتها ساحة اختلاف وتنوّع، لا تُقاس فيها القيمة بمسطرة واحدة، ولا يُحتفى فيها بما هو شائع فقط، بل بما هو صادق، متفرّد، ومبني على تجربة حقيقية.
المنافسة الراقية ليست صراعًا على الضوء، بل مساحة رحبة تتسع لتنوّع التجارب وتباين الزوايا التي يُطل منها كل مبدع.
النجاح في جوهره ليس قالبًا جامدًا يُصب على الجميع، بل تجربة متفرّدة، تتشكّل من سياقات شخصية ومهنية متباينة.
حين يكتب الإنسان قصة نجاحه، فإنه لا يراكم أرقامًا أو يلاحق الجوائز فقط، بل يخوض رحلة ممتدة: يحتك بعوالم مختلفة، يتعلّم من فشله، يتحدّى محدودياته، ويتحوّل.
إن القيمة الحقيقية لا تكمن في «النتيجة النهائية» وحدها، بل في الأسئلة التي طرحتها التجربة، والصراعات التي خاضها صاحبها، والوعي الذي خرج به من كل مرحلة.
لهذا، من غير المنصف أن نقارن بين تجربة بدأت من الصفر، وأخرى انطلقت من بيئة داعمة، أو أن نضع من سار وحيدًا في كفة من حظي بمنظومة متكاملة، حتى القمم تختلف، ولكل منها تضاريسها ومصاعبها الخاصة.
لقد تحوّلت بعض المقارنات العشوائية، التي تذكيها وسائل الإعلام أحيانًا أو جمهور المتابعين، إلى عبء حقيقي على المشهد الثقافي.
فهي لا تُنصف الأعمال، بل تُشخصن الإنجاز، وتحوّل الإبداع إلى سباق شعبي على الاعتراف اللحظي، بدل أن يكون مسارًا للنضج والتطور.
والمؤسف أن هذا النهج قد يُمارَس أحيانًا من قبل بعض أصحاب الخبرة والتأثير الثقافي، الذين يتعاملون مع المشهد وكأنه حكرٌ شخصي لا يُسمح لغيرهم بتصدره.
وهذا النوع من المواقف لا يُقصي فقط مواهب جديدة، بل يحدّ من نمو الساحة الثقافية برمتها.
في مقابل ذلك، يظهر دور المتلقي الواعي، الذي لا ينجرّ خلف المقارنات السطحية، بل يختار أن يكون عنصرًا إيجابيًا في إعادة تشكيل الذائقة العامة.
دوره لم يعد استهلاكيًا فقط، بل تحوّل إلى شريك في خلق مناخ ثقافي ناضج، يقوم على تقدير التنوع، وقراءة المنجز كمنتج إبداعي مستقل عن أسمائه وأضوائه.
ما نحتاجه اليوم ليس إلغاء المقارنة، بل ترشيدها. نحتاج إلى ثقافة المقارنة البنّاءة التي تركز على جودة العمل، وعمق الفكرة، وأثر المنجز في وعي الناس، لا على هالة الأسماء أو مدى تصدّرها للمشهد.
فالإبداع ليس منافسة عدائية، بل مسار يزدهر حين يتسع للجميع.
وفي الختام، حين تُنقى الساحة الثقافية والفنية من شوائب المقارنات الظالمة، تتحوّل إلى فضاء حقيقي للإلهام.
ميدان يتّسع للمجتهد، وللمغامر، وللمبتكر الصامت... تتقاطع فيه التجارب لا لتتنافس على النجومية، بل لتثري بعضها بعضا. وحين تنتصر القيم على الشخصنة، يصبح الإبداع ملكًا عامًا... لا لاسمٍ بعينه، بل للمجتمع بأسره.