د. محمد عبدالله الخازم
إحدى فضائل عيد القرية يكمن في لقاء كبار السن، والأحاديث الشيقة حول تجاربهم وهمومهم المحلية. الدرس الذي تأكد لي، هو أهمية وجود تصور ثقافي اجتماعي فلسفي حول المجتمع الذي نتعامل معه حتى نستطيع فهمه وإدراك احتياجاته، فبدون ذلك نحن نتخذ القرارات بناء على تصوراتنا المستمدة من تجاربنا أو التعليمات التي ربما تكونت في بيئة مختلفة. لفهم الفكرة نطرح مثالاً؛ لو سألتني عن تنظيم المواقف بمقابل مادي في العاصمة، لطالبت بها حيث أراها مهمة لغرض تنظيمي، بالذات مع محدودية المواقف واستغلال أصحاب المحلات لها على حساب العملاء. فضلاً عن فكرتها الاستثمارية. لكنني عندما أتيت إلى مدينة صغيرة وبيئة ريفية لسكانها طبيعتهم التي منها وجود كبار السن والمتقاعدين والمزارعين، كمدينة بلجرشي، فإنني وجدت موضوع المواقف - رغم رسومها البسيطة - يشكل ألماً نفسياً ومعنوياً للسكان، كما أنه يتعارض مع تنمية نشاطات المدينة المحدودة بطبيعتها وكونها ريفية وذات نشاطات محدودة اقتصادياً.
سألت صاحب (بسطة) صغيرة متعود رؤيته في (سوق السبت)؛ أين أنت، يا عم.. لم أجدك كالعادة؟ فأجاب، لقد ضيقوا علينا بمنعنا من الوقوف بسيارتنا في السوق. حاولت الشرح أن الأمر تنظيمي، فأجاب؛ يا ولدي، المشكلة أنني لا أعرف كيف أدفعها، يقولون بالجوال وأنا ما أعرف في جوالي سوى الاتصال بأبنائي المسافرين. لقد طيروا منا الزبائن، كما أنني صاحب (بسطة) فكم هو الربح الذي أحصل عليه حتى أدفع منه للمواقف؟ ويضيف آخر؛ بسبب رسوم المواقف، حُرمت فطور الفول في المقهى المفضل. تخيل أدفع ستة أو عشرة ريالات مواقف عشان أفطر بأربعة ريال فول؟ مللت أترجى موظف المقهى ليساعدني كل مرة في تسديد رسوم المواقف حيث لا أعرف كيف أفعل ذلك. تصور جاءتني مخالفة أضعاف ثمن فطوري، لأنني وقفت على الخط بين المواقف!
ويكررون قصة السيدة التي أعطت سواقها بطاقة الصراف وكلمة السر ليسحب لها بعض المال من حسابها/ راتبها المحول من الضمان الاجتماعي، فسحب كامل رصيدها وغادر إلى بلاده. لأنها لا تعرف تستخدم الصراف والبنك والضمان الاجتماعي لا يقدمون لهم الخدمات المناسبة يدوياً وحضورياً، بحجة أتمتة الأعمال.
اكتشفت أن أهالي القرى يتعاملون مع موظفي مكاتب تجارية لإنهاء معاملاتهم الإلكترونية بمقابل مادي وبعضها حساس مثل، معاملات منصة أحكام، الاستقدام، التقاعد، المحاكم، البلديات، إلخ. يسلمونهم معلوماتهم، بما في ذلك إنشاء كلمات السر والاطلاع على المعلومات الشخصية والرموز السرية للمواقع والمعاملات، إلخ.
القصص عديدة، والمهم عدم التعامل مع جميع البيِئات بذات التصور الذهني وذات الفكر الاستثماري. رغم بساطة فكرة رسوم المواقف -على سبيل المثال- وضرورتها في المدن الكبيرة، إلا أن لها ألمها المعنوي والنفسي للمناطق الصغيرة كبلجرشي. كما أنها تنفر الأهالي من ارتياد وسط المدينة وأماكنها القديمة، وهو أمر يعاكس استراتيجيات تطوير السياحة وأحد روافدها الأعمال اليدوية التي يعرضها الأهالي في بسطاتهم ومحلاتهم الصغيرة.
حياة كبار السن عبارة عن أوجاع متراكمة، فلا تزيدوها. مع التقدير للأتمتة واستخدام التقنيات الحديثة، أطالب جميع القطاعات بتقدير كبار وكبيرات السن ومن في حكمهم، بعدم منعهم مراجعة الدوائر الحكومية والبنوك ومساعدتهم في إكمال معاملاتهم بشكل يدوي أو مساعدة موظفين متخصصين. من الصعب تعليم كبير سن كيف يستخدم التقنيات الحديثة وليس منطقياً أن نجبر كبيراً راتبه من الضمان الاجتماعي محدود بأن يلجأ لمكاتب الخدمات في كل مرة يريد إنهاء معاملة، أو ندفعه للعزلة وتجنب الأسواق والمقاهي بسبب (الفوبيا) و(الرهاب) الذي تسببه له فكرة التعامل مع المواقف برسوم.