هويدا المرشود
الأرض لا تُفرج عن أسرارها في كل حين. هي تختبر صبرنا، ووعينا، وصدق نظرتنا لها. وحين تشعر بأننا بلغنا ما يكفي من الفهم... تبدأ بالبوح.
المملكة العربية السعودية لم تكتشف مؤخرًا فقط حقول نفط جديدة، بل اكتشفت ما هو أعمق: أنها ليست صحراء كما نظن، بل ذاكرة خضراء، تخبئ في جوفها أسرارًا عن حياة كانت، وعن أرضٍ نضِرة عبَرَت منها الحياة قبل ملايين السنين.
في أبريل 2025، أعلنت وزارة الطاقة اكتشاف 14 حقلاً ومكمنًا جديدًا للنفط والغاز في المنطقة الشرقية والربع الخالي. إعلان ضخم، يضيف إلى رصيد المملكة كقوة طاقية عالمية.
لكن الحدث الموازي، الذي حمل أبعادًا تتجاوز الجيولوجيا، جاء من هيئة التراث، التي أعلنت أن «دحول الصمّان» -وهي كهوف طبيعية شرق المملكة- تُظهر أدلة علمية على أن هذه الأرض كانت قبل نحو 8 ملايين سنة واحة خضراء، تنبض بالماء والحياة. لم يكن التزامن بين الاكتشافين عاديًا. ففي الوقت الذي يكشف فيه النفط عن قوة الحاضر، تكشف الكهوف عن ذاكرة الماضي. النفط يُشعل المستقبل. أما الكهوف؟ الكهوف تُضيء ما لم نعرفه عن أنفسنا.
من هذه النقطة، يصبح كل شيء فلسفيًا. هل تخبرنا الأرض بما نحتاجه اقتصاديًا فقط؟ أم أنها، حين تثق بنا، تكشف عن صورتها الأولى؟ هل «دحول الصمّان» مجرد جيولوجيا؟ أم أنها وثيقة هوية، تقول لنا: «أنتم أبناء أرض خضراء.. لا مجرد عابري رمال»؟
وحين نكتشف أن هذه الصحراء كانت مروجًا ذات يوم، يتغيّر سؤال التنمية نفسه. لم نعد نسأل: «كيف نُعمر الأرض؟» بل نسأل: «هل الأرض تريد أن تعود كما كانت؟ وهل نحن مستعدون لفهم إشاراتها؟»
هنا، لا بد أن نتوقف أمام حقيقة تتجاوز الكلمات: الأرض لا تمنح أسرارها بسهولة. هي تختبر النوايا، وتنصت لما في القلب، وتقرر متى تبوح.
ولعل أبلغ ما يمكن قوله في هذا السياق:
«حين تعرف الأرض صاحبها، تبوح له بأسرارها».
ليست مجرد عبارة، بل خيط ناعم يربط بين الاكتشاف الجيولوجي والرؤية الفلسفية. فالأرض لا تتكلم لكل من يمر، بل لمن ينتمي.
وهكذا، لا تعود «دحول الصمّان» مجرد كهوف، بل شهادة على أن المملكة لم تكن يومًا صحراء صامتة، بل ذاكرة حيّة، تعرف من ينصت لها جيدًا.
المملكة اليوم لا تقود فقط مستقبل الطاقة، بل تقود مستقبل الوعي. تعيد ربط الإنسان بأرضه، لا باعتبارها مجرد مورد، بل باعتبارها مرآة. مرآة يرى فيها ما كان، وما يمكن أن يكون. لكن وراء هذا الاكتشاف لا يكمن مجرد شعاع ضوء جديد، بل دعوة عميقة لأن نعيد النظر في علاقتنا بالأرض. فالمملكة اليوم لا تسعى فقط إلى تطوير مواردها، بل إلى تطوير وعيها. هذا الوعي الذي بدأ يخلق ملامح جديدة للمجتمع السعودي، حيث إن العلاقة مع الأرض لم تعد علاقة استهلاكية، بل علاقة فلسفية. هي علاقة إعادة اتصال بالأصل، والتساؤل: هل نحن مستعدون لأن نكون جزءًا من دورة حياة جديدة، من أجل الاستدامة؟
ربما، إنما تكمن أعظم مكاسب هذا الاكتشاف في هذا التحول الهادئ في الفكر الوطني. فالسعودية اليوم ليست فقط دولة تقود عالم الطاقة، بل هي دولة تُعيد صياغة علاقة الإنسان بالأرض. وهي تسير بثقة نحو المستقبل، كما لو أن كل حجر، وكل ذرة في تربتها، يروي لها قصة عن هويتها، عن ماضيها، وعن مستقبلها الذي ترنو إليه. ولعل المعادلة الأهم التي تقدمها هذه الاكتشافات هي:
كلما غصنا أعمق في الجيولوجيا... اقتربنا أكثر من الفلسفة.
فمملكتنا الحبيبة ليست فقط من تملك النفط، بل من تفهم رسائل الأرض.
وهذه ميزة لا تُشترى، بل تُكتسب بنضج، وبصيرة، وثقة.. تستحقها دولة واثقة، تُدرك عمق تاريخها، وتبصر ما فوق الأفق.